الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لعلهم يتضرعون

لعلهم يتضرعون

لعلهم يتضرعون

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.. وبعد..
فإن أعظم ما نتواصى به بعد تقوى الله سبحانه، أن نكون عبيده اختيارا كما أننا عبيده قهرا واضطرارا؛ فإن أول واجب يمليه العقل والعلم والمنطق على الإنسان أن يتبصر بذاته، ويعلم هويته وحقيقة وجوده في هذه الكون وعلاقته به.

ومن رجع إلى العقل والعلم والمنطق علم أنه عبد مملوك للخالق الذي أوجد هذا الكون وأوجده فيه، وقام أسباب حياته ومعايشه وسخر له المكونات من حوله. الإله الذي جعل بداءة وجوده من لدنه، ونهايته عودا إليه، وقهره لعبوديته فلا يخرج عن قضائه، ولا يفوته قدره، ولا يمكنه أن يخرج من ملكه ولا عن مراده ولا عن مشيئته؛ فهو سبحانه لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ولا غالب لأمره.

فمن علم أنه عبد بالقهر والاضطرار لحكم الله القدري الكوني، قاده العقل والعلم والمنطق إلى أن يسعى أن يكون عبدا بالاختيار لحكمه الشرعي وأمره الديني، فيلتزم شرعه، ودينه وحكمه، ويلزم نفسه هدي نبيه، فيعيش على هداه طائعا مستجيبا.. وأن يلزم عتبة عبوديته والتي من أخص عناوينها التضرع لله والتذلل والافتقار لله الواحد القهار، والإقرار بأنه لا غنى له عن ربه طرفة عين.. كما قال سبحانه : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ . وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}

فجميع الخلق مفتقرون إلى الله في كل شئونهم وأحوالهم، وفي جليل أمرهم وفي صغير شأنهم، لا غنى لهم عنه لا في كبير أمر ولا صغيره، ولا في عظيمه ولا حقيره، لا في أمر دينهم ولا أمر دنياهم وهو الغني الحميد.
هم مُفْتَقِرُونَ إلى اللهِ -تعالى- في أَمْنِهِم، فَكَيْفَ لا يَفْتَقِرُونَ إِلَيْهِ في خَوْفِهِم؟
مُفْتَقِرُونَ إلى اللهِ -تعالى- في عِزِّهِم، فَكَيْفَ لا يَفْتَقِرُونَ إِلَيْهِ في ذُلِّهِم؟
مُفْتَقِرُونَ إلى اللهِ -تعالى- في قُوَّتِهِم، فَكَيْفَ لا يَفْتَقِرُونَ إِلَيْهِ في ضَعْفِهِم؟
مُفْتَقِرُونَ إلى اللهِ -تعالى- في رخائهم، فَكَيْفَ لا يَفْتَقِرُونَ إِلَيْهِ في شدتهم؟
مُفْتَقِرُونَ إلى اللهِ -تعالى- في غناهم، فَكَيْفَ لا يَفْتَقِرُونَ إِلَيْهِ في فقرهم؟
فيلزمهم في جميع الأحوال أن يتذللوا له، ويتعلقوا بحبله، ويرغبوا إليه، وأن يلزموا باب التضرع إليه؛ ليطعمهم من جوع، ويؤمنهم من الخوف، ويصرف عنهم عاديات الزمان وأسباب الغير.

غير أن بعض الخلق قد ينسى هذه الحقيقة أو يتناساها، أو يغره إمهال الله له فيستكبر عنها أو يتعالى.
بعض الناس إذا بسط الله له في الرزق، وعافاه في البدن، ومن عليه بنعمة الأمن والرخاء، فيطول عليه الأمد حتى يظن أن هذا حق مكتسب، وأن الله لا يمكن أن يغير عليه، فيطغى ويتعالى {كلا إن الإنسان ليطغى . أن رآه استغنى}.
فمتى غفل الناس عن هذه الحقيقة أو تغافلوا عنها، أتتهم المذكرات من رب الأرض والسموات، وبدل لهم من حال إلى حال؛ ليذكرهم وينبههم ليعودوا إليه ويتضرعوا له.
ربما كانوا في غنى يطغيهم فينقلهم إلى ضده لعلهم يتضرعون.
وربما كانوا في فقر ينسيهم فينقلهم إلى خلافه لعلهم يشكرون.

فإذا تابوا وعادوا إليه أثبت عليهم نعمته، وفتح عليهم أبواب البركات، ورضي عنهم وأرضاهم، وأسعدهم في دنياهم، وأثابهم في أخراهم؛ ففازوا بسعادة الدارين.
وإن هم أبوا وكفروا بالله فقرا وغنى، أهلكهم الله تعالى غير مأسوف عليهم.

وهذا المعنى ذكره الله في ثنايا كتابه كثيرا لمن تأمل وتدبر..
ومن أظهر هذه المواطن ما جاء في سورة الأعراف من أول الآية 94.. وما بعدها. يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ . ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ . وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(الأعراف:94 ـ 96).
والبأسـاء: هي ما يصيب الناس في أبدانهم من أمراض وأسقام. [اللهم أذهب الباس رب الناس].
والضراء: ما يصيبهم من فقر وحاجة.
أي يصيبهم بذلك {لعلهم يضرعون}: أي يدعون ويخشعون ويبتهلون إلى الله في كشف ما نزل بهم.

فإذا لم يثوبوا ولم يرجعوا إلى الله {بدلنا مكان السيئة الحسنة}: أي قلب لهم الحال من الشدة إلى الرخاء، ومن الفقر إلى الغنى، ومن المرض إلى الصحة والعافية.
{حتى عفوا}: أي بقوا على نفورهم وعتوهم، واستمروا على حالهم حتى كثرت أعدادهم وأموالهم، فما شكروا لله نعمة، ولا عرفوه في رخاء ولا شدة، وإنما قالوا {قد مس آباءنا الضراء والسراء} أي إنما هي الايام تتقلب بأهلها، وإنما يحدث فينا مثل ما حدث في آبائنا وأجدادنا، وإنما هي عاديات الغير، والأيام دول يوم لك ويوم عليك، والدهر تارات وتارات. فلما فعلوا ذلك {أخذناهم بغتة وهم لا يشعرون}.

ونفس هذا المعنى تكرر في سورة الأنعام من الآية 42 وما بعدها. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ. فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ . فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}(الأنعام:42 ـ45).

وكذلك في سورة المؤمنون الآية 75 وما بعدها. {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ . وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ . حَتَّىٰ إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ}(المؤمنون:75 ـ77).
هذا حال أهل العناد والشقاق، والكافرين بنعم الله الخلاق الرزاق.

وأما أهل الإيمان المرضي عنهم فإنما حالهم الرضا عن الله في كل حين، والوقوف مع مراده في كل حال، فحالهم صبر في الضراء، وشكر في السراء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سرّاء شكر؛ فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر؛ فكان خيراً له](رواه مسلم).
فأثابهم الله في الحالين، وأكرمهم في الدارين، ورضي عنهم كما رضوا عنه.

التضرع يرفع البلاء:
إن القرآن والسنة وتاريخ البشر ـ أمما وأفرادا ـ يدل على أن التضرع يرفع الله به البلاء، ويرد به القضاء، فما نزل بلاء بقوم فتضرعوا إلى الله حق التضرع، وتذللوا له حق التذلل، وقاموا لله بالمراد إلا رفع عنهم البلاء.. وأظهر دليل على ذلك قوم يونس؛ بعد أن تركهم نبيهم وتوعدهم بالعقاب، وأيقنوا به ولاحت لهم أسبابه، وعلموا أنه واقع بهم؛ خرجوا إلى الله يجأرون ويتضرعون كبارا وصغارا، رجالا ونساء، حتى أخرجوا معهم أنعامهم وفرقوا بين الصغير وأمه؛ ليزدادوا تضرعا "قيل فعلوا ذلك أربعين يوما".. فكانت العاقبة أن رفع الله عنهم العذاب ومتعهم إلى حين. {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ}(يونس:98)

وحوادث الأفراد كذلك تدل على هذا:
وأنظر إلى حال أيوب {إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ}(الأنبياء:83، 84)
وإلى حال يونس حين نادى في الظلمات {أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ}[الأنبياء:87ـ 88]. وحال نوح، وموسى، وزكريا، وغيرهم وغيرهم.

وحتى أصحاب محمد حين {قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}(آل عمران:173 ،174)

ولذلك روي عن بعض الفضلاء قوله: "عجبت لمن خاف ولم يفزع الى قوله تعالى: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}، فاني سمعت الله عقبها يقول: {فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ}، وعجبت لمن اغتم، ولم يفزع الى قوله تعالى: {لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}؛ فإني سمعت الله عقبها يقول: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ}، وعجبت لمن مكر به، ولم يفزع إلى قوله تعالى: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}؛ فإني سمعت الله عقبها يقول: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا}.

فمن نزلت به ضائقة فلينزلها بالله، وليفزع إليه، وليتضرع إليه، وليتذلل بين يديه، فإن مع التذلل والتضرع باب الفرج. وأهل التضرع والدعاء أقرب الناس لرحمة الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ . وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ}(الأعراف:55 ،56). صدق الله العظيم.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة