شاء الله تعالى أن يبعث في الناس على فتراتٍ رسلاً وأنبياءَ يبلِّغون هديه ويقيمون شرعه، وتوالت بعثة الأنبياء والرُّسل حتى ختمت ببعثة الرَّسول -صلى الله عليه وسلم-، ولم تكن الرّسالات السماوية السابقة عامَّةً في خطابها ووجهتها، خلاف شريعة الإسلام الَّتي أكمل الله بها الدين وجعلها صالحة لكلّ النَّاس في كلّ زمانٍ ومكانٍ .
يقول الله تعالى : {قل يا أيّها الناس إنّي رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويُميت فآمنوا بالله ورسوله النبيّ الأمّي الذي يُؤمن بالله وكلماته واتَّبعوه لعلَّكم تهتدون} (الأعراف : 158).
فهذه الآية وغيرها دالَّة على أن الشريعة الإسلامية دعوة أرادها الله أن تكون شاملةً في خطابها، عامّةً في وجهتها، شريعةٌ من ربّ النّاس لكلّ النّاس، وليست شريعةً خاصّة بالعرب دون غيرهم، حتّى وإن كان المبعوث بها عربياً واللُّغة التي نزلت بها عربيّةً، فهي عامّةٌ وعالميّةٌ، منشؤها عن الصِّبغة الربانية التّي هي قِوام شريعة الإسلام وأساسها ، بها يحصل التَّناسق بين حياة النَّاس وحركة الكون، ويحصل التَّناغم بين كَينُونة الإنسان وظاهر حياته، وهو الضَّامن لتحقيق الخير، وصيانة الحياة من الفساد والتردِّي.
ومقابل الشَّريعة الإسلاميّة نجد القوانين البشريّة الوضعيّة المُدانة في كثيرٍ من المواقف؛ لأنّها تأتي في الغالب معبّرةً عن مصالح الفئة التي وضعتها، مُهيَّئةً أصلاً لتفسير وتبرير أغراضٍ محدودةٍ، وسلوكاتٍ معينةٍ – نحيل المهتمّ إلى انتقادات المدرسة الماركسيّة للقوانين اللّيبرالية -.
ولكن حين يكون المشرّع ربَّ العالمين، العليم بما يصلح للبشريّة فرداً وجماعةً، فإن هذا التشريع يأتي عامّاً وشاملاً، تتجلّى فيه الروح الإنسانية التّي لا اعتبار معها للونٍ أو جنسٍ أو لغةٍ أو قوميةٍ، ما دام هذا التَّشريع يستصحب في بنائه مذهبيَّة الإسلام العقديَّة وهويّة المسلم وجنسيّته الأولى، التّي تغدو الأرض معها مجالاً فسيحاً لها .
وعموميّة الإسلام من صميم هذا الدّين، ومركوزةٌ فيه بحكم طبيعته، تجسَّدت أوّل الأمر رموزاً في بلالٍ الحبشيِّ، وصهيبٍ الرُّوميّ، وسلمانَ الفارسيّ، وعمرَ القرشيّ، والأدلَّة النقليَّة القطعيّة تعلن صراحةً عن عمومية دعوة النبي-صلى الله عليه وسلم-، ومنها قوله تعالى: {تبارك الّذي نزَّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً} (الفرقان : 1) . وقوله عز وجل: {وما أرسلناك إلاّ كافَّةً للنّاس بشيراً ونذيراً ولكنَّ أكثر النّاس لا يعلمون} (سبأ:.28) . وقول الرحمن تبارك في علاه : {وما علّمناه الشّعر وما يبغي له إن هو إلاّ ذكرٌ وقرآنٌ مّبين * لينذر من كان حيّاً ويحقّ القول على الكافرين} (يس: 69 -70) .
وكلها أدلّةٌ تدعو إلى الانتقال بالإسلام إلى كلّ الأمكنة التي يتوفّر فيها المناخ الملائم والانطلاق به، حيثما تتهيّأ الظروف والعوامل.
نظرة تحليليّةٌ لمضامين الرسائل النبويّة إلى ملوك عصره
تنفيذاً لأمر الجهر بما يؤمر به الرّسول الكريم: {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين} (الحجر: 94)، باشر - عليه الصلاة والسلام- الدَّعوة إلى الله، الهادفة إلى تعبيد النّاس لربّ الناس، ونبذ الأوهام الوثنّية، والأغاليط الشيطانيّة بكلِّ مظاهرها حيثما وجدت، وفي مرحلةٍ دعويّةٍ جديدةٍ، وبعد معاهدة صلح الحديبيَّة سنة 6 للهجرة، شرع الرّسول الكريم في تنفيذ سياسةٍ خارجيةٍ تهدف إلى ربط العالَم المسلم الفتيّ الناشئ بالعالم كلّه، فأرسل كتباً لملوك عصره ،وعددٍ من شيوخ قلب الجزيرة العربيّة، وإلى أمراءِ أطرافِها كالبحرين، واليمامة، وعمّان، وحضر موتٍ، واليمن .فكانت الرّسائل من أكبر الأدلّة على عالميَّة الإسلام، وأنَّه أُنزل لكلّ الأممم .
نصوص الكتب النبويّة للملوك
1-نصُّ الكتاب الموجَّه إلى النجاشيّ ملك الحبشة
(بسم الله الرحمن الرحيم : من محمدٍ رسول الله إلى النجاشيّ ملك الحبشة ، أسلم أنت ، فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو ، الملك القدّوس السلام المهيمن ، وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته ، ألقاها إلى مريم البتول الطيّبة الحصينة ، فحملت بعيسى ، فخلقه الله من روحه ، ونفخه كما خلق آدم بيده ، وإني أدعوك الى الله وحده لا شريك له ، والموالاة على طاعته ، وأن تتَّبعني وتؤمن بالّذي جاءني ، فإنّي رسول الله ، وإنّي أدعوك وجنودك إلى الله عزّ وجلّ ، وقد بلَّغت ونصحت فاقبلوا نصيحتي ، والسّلام على من اتّبع الهدى) زاد المعاد لابن القيم.
2-نص الكتاب الموجه إلى هرقل عظيم الروم
(بسم الله الرّحمن الرّحيم من محمّدٍ بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الرّوم سلامٌ على من اتّبع الهدى، أما بعد فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرّتين، فإن تولَّيت فإنّ عليك إثم الأريسيّين و {ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاّ تعبدوا إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون}) رواه البخاري .
3-نصّ كتاب النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إلى كسرى عظيم الفرس
(بسم الله الرحمن الرحيم من محمّدٍ بن عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط، سلامٌ على من اتّبع الهدى، أمّا بعد فإنّي أدعوكم بدعاية الإسلام، أسلِم تَسلم وأسلِم يؤتك الله أجرك مرّتين، فإن تولَّيت فإنّ عليك إثم القبط {ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} ) زاد المعاد لابن القيم.
4-نصّ كتاب النبيّ -صلى الله عليه وسلم-إلى كسرى عظيم الفرس
(بسم الله الرحمن الرحيم من محمّدٍ رسول الله إلى كسرى عظيم فارسٍ، سلامٌ على من اتَّبع الهدى وآمن بالله ورسوله وشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأن محمدً عبده ورسوله، وأدعوك بدعاء الله فإني أنا رسول الله إلى الناس كافّة لأنذر من كان حيّاً ويحقّ القول على الكافرين، فإن تُسلم تَسلم وإن أبَيت فإنّ إثم المجوس عليك) البداية والنهاية لابن كثير.
فالملاحظ ينتبه إلى أنّ الرّسائل النبويّة تشتمل ألفاظاً وعباراتٍ لها دلالتها الدينيّة والتربويّة، ولها وقعٌ خاصٌّ لدى من يسمعها ويخاطَب بها أوّل مرةٍ، وصيغت بشكلٍ يُعتبر في حدّ ذاته دعوةً إلا الله، فكلّها مفتتحةٌ بالبسملة، ومتبوعةٌ بـ " من محمّدٍ رسول الله " أو " من محمّدٍ عبد الله ورسوله "، وبعد ذكر اسم الملك ولقبه المشهور به، تأتي عبارة " أسلم " أو " السَّلام على من اتّبع الهدى "، وفي سياق دعوتها للملوك نجدها تُذكِّر بالأمور العقديَّة التي صحّحها الإسلام للشرائع السّماوية المحرَّفة، كما هو الشَّأن بالنِّسبة لخلق سيّدنا عيسى عليه السلام .
وتَلفت الانتباه عباراتٌ ظلّت تتردّد في الكتب الأربعة " أدعوك بدعاية الإسلام " و " إن تولّيت فعليك إثم ... " و " يا أهل الكتاب تعالوا ... " وتردّد هذه العبارات له دلالاتٌ حُبْلى بالعبر والعظات، ستأتي الإشارة إلى بعضها في الجزء الثاني من المقال.
أما ما تتميّز به الرّسائل النبويّة من تلوينٍ في الخطاب ، كالأمر في " أسلم " والتّرغيب في " يؤتك أجرك " والتّرهيب في " فإن تولّيت فعليك إثم "، لشاهدٌ من جهةٍ على إتيان الرّسول – -صلى الله عليه وسلم- - من جوامع العِلم، وما تتمتّع به اللّغة العربيّة من صفاتٍ أكسبتها اقتداراً على التّوضيح والبيان بأوجز العبارات وأقصرها، ولعلَّ هذا من بين المميِّزات التّي جعلتها تَحُوز شرف وعاء الوحي المتلوِّ وغير المتلوِّ، فصارت جزءاً من الدّين.
أمّا أجوبة الملوك على الكتب وتحليل الرّسائل النبويَّة ففي الجزء الثاني إن شاء الله تعالى .