الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

اكتشاف الموهوبين

اكتشاف الموهوبين

اكتشاف الموهوبين

قررت يوما أن أكتب عن النبوغ والنجابة والعبقرية، وهي كنوز حقيقية وثروات قومية مدفونة تحتاج من يبحث عنها ليستخرجها أو يفتح لها الطريق لتعمل وتثمر.

بحثت في بعض مواقع البحث فهالني أن غالب ما فيه من فعاليات وبرامج اكتشاف النابغين والنجباء تتعلق بغير بلاد المسلمين، وأن ما وجد منها في بلادنا فأكثره مما يتعلق بصناعة الترفيه كالفن والرقص والموسيقى والتمثيل وما يدور في فلكها..

وكنت قديما أقرأ وأسمع عن (كشافي الأندية) وهم أناس عندهم حس رياضي (كروي خاصة) يجوبون الشوارع ليشاهدوا الأولاد والشباب يلعبون؛ فإذا توسموا الموهبة ومخايل النبوغ الكروي عند طفل أو صبي أو شاب صغير اختطفوه إلى النادي.. وكم من لاعب سطع نجمه لأنه وقعت عليه عين خبير.

من يتصفح ويقرأ ويطالع يجد برامج كثيرة عبر العالم الغرض منها اكتشاف هذه المواهب الدفينة لتكون في النهاية مشروع لاعب أو ممثل أو مغن أو حتى راقص وقد انتقلت إلينا هذه البرامج، وأقبل عليها الناس للترفيه لا للاستفادة والتعلم ونقل الخبرة.

الموهبة:
الموهبة في الحقيقة عطية يهبها الله تعالى من يشاء من عباده.. وهي استعداد فطري لدى الفرد يظهر في صورة أداء متميز في مجال أو أكثر من مجالات النشاط الإنساني.. لا يستفاد منها ولا ينتفع بها تمام الانتفاع إلا إذا توفرت البيئة الصالحة لاكتشافها ورعايتها وتنميتها.

والمتأمل في بلادنا ووطننا يوقن أننا لسنا فقط لا نبحث عن المواهب والنابغين والأذكياء، لا بل عندنا قدرة فائقة على قتل هذه المواهب وهدم الكفاءات والتفريط فيها.. وأكبر دليل على ذلك أن مواهبنا العربية والإسلامية كلها أو جلها إنما ظهرت في بلاد الغرب حيث وجدوا البيئة الخصبة والجهات الراعية، وجاء في بعض الإحصائيات أن أمريكا وحدها تستقبل كل عام حوالي أربع ألاف موهبة من عالمنا الإسلامي وحده، ولك أن تتخيل لو أن هذه المواهب عملت في بلادنا كيف سيكون أثرها؟!

القرآن واكتشاف المواهب:
لقد تحدث القرآن عن اكتشاف المواهب والبحث عن النوابغ في مواطن كثيرة سأذكر منها قصتين اثنتين:
الأولى: قصة موسى وأخيه هارون.. فمن المشهور أن موسى كان يعاني مشكلة في البيان ولعله بسبب قصة الجمرة المشهورة عند صغره، وكان هارون أخوه فصيحا بليغا، واكتشف موسى هذه الموهبة في أخيه ولاحظها فيه.. فلما اختاره الله لرسالته أراد أن يسخر هذه الموهبة لخدمة الدين ويكون أخوه عونا له فيما كلفه الله به فقال: {وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون}(القصص:34)..

إن الكلام مهارة، والبيان كذلك مهارة وموهبة.. وقد تبقى هذه المهارة مدفونة لا تؤدي دورا ولا تقطف ثمرة حتى يأتي نابه نابغ وقائد متفرس ومتفحص فيكتشفها ويلتقطها ثم يضعها في مكانها المناسب لتنفع وتثمر.

وأما القصة الثانية: فهي قصة يوسف وملك مصر.. لقد رأى الملك الرؤيا، وعبرها يوسف له فأعجب بحسن تعبيره وواقعية تأويله، فاستدعاه فلما رآه الملك وكلمه تفرس فيه القوة والأمانة وعلم أن وراء الكلام عقلا نابغا وفهما ثاقبا وموهبة خارقة؛ {وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم}(يوسف:54،55).. فجعله على خزائن الأرض، فكانت هذه الفراسة واستغلال الموهبة سببا في إنقاذ مصر من مجاعة محققة.

إن القرآن يشير في هذين المثلين إلى وجود مواهب وقدرات مدفونة، وأنها إذا اكتشفت ووجدت فرصة العمل نفع الله بها الدين كما في قصة هارون، أو الدنيا والدين كما في قصة يوسف عليه السلام.. فهو حث على البحث عن هذه المواهب وعن هؤلاء النابغين، ودعوة لتفعيل دورها والانتفاع بها.

اكتشاف المواهب في السنة:
أما السيرة النبوية ففيها دلالة واضحة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يراقب أصحابه، ويتفرس مهاراتهم، ويصنف قدراتهم ومواهبهم كما في حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ألا وإن لكل أمة أمينا، وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح]( رواه الترمذي وقال حسن صحيح).

وكانت الخطوة التالية هي توظيف تلك القدرات والمهارات في خدمة القضية وخدمة الدعوة ونصرة الدين ونفع الناس والأمة، وإلا فما قيمة الموهبة إذا لم تستغل وما فائدة العبقرية إذا لم ينتفع بها؟ فجعل النبي خالدا قائدا للجيوش، ومعاذا معلما للفقه وكذا ابن مسعود، وأبي بن كعب من أكبر القراء، وبلالا مؤذنا، ومصعب بن عمير داعيا.. وهكذا كل إنسان في مكانه اللائق به فنفع الله بهم جميعا.

قتل المواهب:
وإذا كنا ننادي باكتشاف المواهب على مستوى الدولة كلها، ففي باب العمل الإسلامي والدعوي يعلو الصوت بتلك المناداة.. ولفت الانتباه إلى هذا الباب والدعوة إلى فتحه أمام الجيل الجديد، وفيه كثير من النجباء وأصحاب النبوغ والهمم العالية والاستعداد النفسي والفطري؛ ردا على من يقول بأن الإسلاميين هم أكثر الناس إهمالا للكفاءات، وغفلة عن أصحاب القدرات، وقتلا للمواهب والطاقات، وأن المتصدرين للمشهد لا يتركون متنفسا للأجيال القادمة، ولم يخرجوا صفوفا تالية ووجوها جديدة منذ عقود؛ مما يوحي بأننا أقل الناس سعيا في هذا الباب وأبعد الناس عنه، مع أن عندنا ذهبا وجواهر ولألئ لكنها مدفونة تنتظر من يبحث عنها ليمسح عنها الغبار ويستخرجها من مكامنها ويقدمها للجمهور.. عندنا مواهب قرآنية ومشاريع خطباء ودعاة وعلماء يحتاجون فقط من يوجه.. فكيف لو وجد من يهتم ويراقب ويرعى؟!

إنني أزعم أن عدم اكتشاف الموهبة مبكرا هو وأد ابتدائي لها، وأن إهمال هذه المواهب بعد اكتشافها هو حكم عليها بالقتل في مهدها..

وأزعم أن الدولة التي تريد أن يكون لها مقام بين الدول، أو أن يكون لها أثر في العالم، ينبغي لها أن تبث عيونها (في المدارس والجامعات والمعاهد والنوادي والمصانع وكل مكان فيه تجمع) لاكتشاف هذه المواهب في بداياتها، ثم نقلها إلى محاضن مخصوصة بترتيب ونظام وفكر استراتيجي ممنهج، وبخطط واضحة ومدروسة لصقل هذه المواهب ورعايتها وإعدادها لخدمة الدين والوطن.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة