الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

بل نحن المرضى

بل نحن المرضى

بل نحن المرضى

دخلت على مريض في المستشفى.. فلما أقبلت إليه.. إذا هو رجل قد بلغ من العمر أربعين سنة.. من أنضر الناس وجها.. وأحسنهم قواما.. لكن جسده كله مشلول لا يتحرك منه ذرة.. إلا رأسه وبعض رقبته.. لو أخذت فأسا وقطّعت جسده من رجليه إلى صدره لما شعر بشيء.. لا يدري (أجلكم الله) أنه خرج منه بول أو غائط إلا إذا شم الرائحة.. يلبسونه حفائظ كالأطفال يغيرونها كل يوم.. دخلت غرفته.. فإذا جرس الهاتف يرن.. فصاح بي وقال: ياشيخ أدرك الهاتف قبل أن ينقطع الاتصال.. فرفعت سماعة الهاتف ثم قربتها إلى أذنه ووضعت مخدة تمسكها.. وانتظرت قليلا حتى أنهى مكالمته.. ثم قال يا شيخ أرجع السماعة مكانها.. فأرجعتها مكانها.. ثم سألته منذ متى وأنت على هذا الحال فقال منذ عشرين سنة.. وأنا مشلول على هذا السرير.

وحدثني أحد الفضلاء أنه مر بغرفة في المستشفى.. فإذا فيها مريض يصيح بأعلى صوته.. ويئن أنينا يقطع القلب.. قال صاحبي: فدخلت عليه.. فإذا هو مشلول جسده كله وهو يحاول الالتفاف فلا يستطيع.. فسألت الممرض عن سبب صياحه.. فقال: هذا مصاب بشلل تام. وتلف في الأمعاء.. وبعد كل وجبة غداء أو عشاء يصيبه عسر هضم .

فقلت له: لا تطعموه طعاما ثقيلا.. جنبوه أكل اللحم والرز.. فقال الممرض: أتدري ماذا نطعمه.. والله لا ندخل إلى بطنه إلا الحليب من خلال الأنابيب الموصلة بأنفه وكل هذه لآلام ليهضم هذا الحليب.

وحدثني آخر أنه مر بغرفة مريض مشلول أيضا لا يتحرك منه شيء أبدا قال: فإذا المريض يصيح بالمارّين.. فدخلت عليه فرأيت أمامه لوحا خشبيا عليه مصحف مفتوح.. وهذا المريض منذ ساعات.. كلما انتهى من قراءة الصفحتين أعادهما.. فإذا فرغ منهما أعادهما؛ لأنه لا يستطيع أن يتحرك ليقلب الصفحة ولم يجد أحدا يساعده.. فلما وقفت أمامه قال لي: لو سمحت.. أقلب الصفحة... فقلبتها.. فتهلل وجهه.. ثم وجه نظره إلى المصحف وأخذ يقرأ.. فانفجرت باكيا بين يديه.. متعجبا من حرصه.. وغفلتنا.

وحدثني ثالث أنه دخل على رجل مقعد مشلول تماما في إحدى المستشفيات لا يتحرك إلا رأسه.. فلما رأى حاله.. رأف به وقال: ماذا تتمنى.. ظن أن أمنيته الكبرى أن يشفى ويقوم ويقعد.. ويذهب ويجيء.. فقال المريض.. أنا عمري قرابة الأربعين.. وعندي خمسة أولاد وعلى هذا السرير منذ سبع سنين والله لا أتمنى أن أمشي.. ولا أن أرى أولادي.. ولا أعيش مثل الناس. قال: عجبا.. إذن ماذا تتمنى؟؟ فقال: أتمنى أني أستطيع أن ألصق هذه الجبهة على الأرض.. وأسجد كما يسجد الناس.

وأخبرني أحد الأطباء أنه دخل في غرفة الإنعاش على مريض.. فإذا شيخ كبير.. على سرير أبيض وجهه يتلألأ نورا.. قال صاحبي: أخذت أقلب ملفه فإذا هو قد أجريت له عملية في القلب.. أصابه نزيف خلالها.. مما أدى إلى توقف الدم عن بعض مناطق الدماغ.. فأصيب بغيبوبة تامة وإذا الأجهزة موصلة به.. وقد وُضِع على فمه جهاز للتنفس الصناعي يدفع إلى رئتيه تسعة أنفاس في الدقيقة كان بجانبه أحد أولاده.. سألته عنه. فأخبرني أن أباه مؤذن في أحد المساجد منذ سنين أخذت أنظر إليه.. حركت يده.. حركت عينيه.. كلمته.. لا يدري عن شيء أبدا.. كانت حالته خطيرة.

اقترب ولده من أذنه وصار يكلمه.. وهو لا يعقل شيئا فبدأ الولد يقول.. يا أبي... أمي بخير.. وأخواني بخير.. وخالي رجع من السفر.. واستمر الولد يتكلم.. والأمر على ما هو عليه.. الشيخ لا يتحرك.. والجهاز يدفع تسعة أنفاس في الدقيقة.

وفجأة قال الولد.. والمسجد مشتاق إليك.. ولا أحد يؤذن فيه إلا فلان ويخطئ في الأذان، ومكانك في المسجد فارغ.. فلما ذكر المسجد والأذان.. اضطرب صدر الشيخ.. وبدأ يتنفس فنظرت إلى الجهاز فإذا هو يشير إلى ثمانية عشر نفسا في الدقيقة.. والولد لا يدري.. ثم قال الولد: وابن عمي تزوج.. وأخي تخرج.. فهدأ الشيخ مرة أخرى وعادت الأنفاس تسعة يدفعها الجهاز الآلي..

فلما رأيت ذلك أقبلت إليه حتى وقفت عند رأسه.. حركت يده.. عينيه.. هززته.. لاشيء كل شيء ساكن. لا يتجاوب معي أبدا.. تعجبت.. قربت فمي من أذنه ثم قلت: الله أكبر.... حي على الصلاة.. حي على الفلاح وأنا أسترق النظر إلى جهاز التنفس.. فإذا به يشير إلى ثمانية عشر نفسا في الدقيقة.

فلله دُرّهم من مرضى بل والله نحن المرضى.. رجال قلبهم معلق بالمساجد.. نعم {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ . لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (النور37 :38)

تبا للذنوب

فأنت يا سليما من المرض والأسقام.. يا معافى من الأدواء والأورام.. يا من تتقلب في النعم.. ألا تخشى النقم.. ماذا فعل الله بك فقابلته بالعصيان؟ بأي شيء آذاك.. أليست نعمه عليك تترى.. وأفضاله عليك لا تحصى؟ أما تخاف أن توقف بين يدي الله غدا فيقول لك: عبدي ألم أصح لك بدنك.. وأوسع عليك في رزقك.. وأسلم لك سمعك وبصرك؟ فتقول بلى.. فيسألك الجبار: فلم عصيتني بنعمي.. وتعرضت لغضبي ونقمي؟. فعندها تنشر في الملأ عيوبك.. وتعرض عليك ذنوبك.

فتباًّ للذنوب.. ما أشد شؤمها.. وأعظم خطرها.. ووالله ما هؤلاء مرضى وإنما المرضى هم نحن أهل المعاصي والذنوب وإن صحت الأبدان والأجسام. فاللهم تب علينا وعلى كل عاص ومذنب يارب العالمين.
ـــــــــــــــــ
من كتاب "في بطن الحوت" للعريفي

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة