الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لوازم في طريق التربية

لوازم في طريق التربية

لوازم في طريق التربية

لقي الفضيل بن عياض رجلا فسأله عن عمره فقال: ستون سنة. قال: سبحان الله!! أنت منذ ستين سنة تسير إلى الله؟ يوشك أن تصل أو قال يوشك أن تبلغ. فكأنه أيقظ الرجل من غفوة، وذكره من غفلة فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله.

وأنا بدوري أسألك أيها الأخ الحبيب: منذ كم سنة وأنت تسير إلى الله؟ كم سنة مرت عليك وأنت سائر إليه؟ في هذه السنين كيف تسير؟ وإلى أين بلغت؟ ويا ترى كم هدفا حققته وكم من الأهداف التي حددتها بقي؟ ويا ترى هل تحس بقرب الوصول وتحقق المأمول؟

ربما كثير منا لا يجد إجابة على هذه الأسئلة، لأنه لا يسير إلى الله أصلا، إنما يسير في الدنيا وإليها، وإن كان يسير إلى الله فإنه يسير كيفما اتفق: يتوضأ كما يتوضأ الناس، ويصلي كما يصلي الناس، ويصوم كما يصوم الناس ويزكي ويحج كما يحج الناس ويصومون، هكذا تعودنا وهكذا تعلمنا من آبائنا. عبادات تؤدى على أنها عادات بلا بحث عن أسرارها، وبلا إدراك لمعانيها، وبلا حرص على ثمراتها، وبلا مراقبة لعواقبها ونتائجها. ربما ترك بعض المعاصي الظاهرة، أو حضر محاضرة أو محاضرتين، وسمع شريطا أو شريطين، وقرأ صفحات في كتاب أو كتابين، ربما قرأ يوما شيئا من القرآن وأكثر الأيام لا يفتحه، وفي بعض الأحيان يذكر الله وأغلب الوقت غافل عنه.. فهل من هذا صفته سائر إلى الله حقا، وساع في تزكية نفسه وتربيتها صدقا؟!!

إن طريق تربية النفس وتزكيتها لا يمكن السير فيه إلا بعلامات للاهتداء، وإشارات للمسير، توضح المراحل، وتدفع المخاطر، وتسهل اجتياز العقبات، وتيسر قطع المفاوز والفلوات، وتقيه شر المنعطفات.

يقول ابن القيم رحمه الله : "كل سائر إلى مقصد لا يتم سيره ولا يصل إلى مقصوده إلا بقوتين: قوة علمية، وقوة عملية: فبالقوة العلمية يبصر منازل الطريق، ومواضع السلوك، ويجتنب أسباب الهلاك ومواضع العطب وطرق المهالك المنحرفة عن الطريق الموصل. فبهذه القوة ينكشف له النور عن أمرين: أعلام الطريق، ومعاطبها. وهذا شطر السعادة والفلاح.. والشطر الثاني في القوة العملية: بأن يضع عصاه على عاتقه، ويشمر مسافرًا في الطريق، قاطعا منازلها منزلة بعد منزلة، فكلما قطع مرحلة استعد لقطع الأخرى، واستشعر القرب من المنزل فهان عليه مشقة السفر" "باختصار من طريق الهجرتين".

لوازم الطريق:

وإذا كان الطريق إلى الله إنما يكون بتطهير القلب وتزكية النفس بالعلم والعمل، وهي لا شك طريق طويل تقطع بالقلوب قبل الأقدام والأبدان، فلابد في هذه الطريق (أعني تربية النفس وتزكيتها للوصول إلى المأمول) لابد فيها من أربعة أشياء: مربَى ــ مربٍ ــ رفقة ــ منهج.

أولها المربى: وهو إنسان يريد أن يقوم نفسه ويربيها، ويطهرها ويزكيها (وهو هنا أنا وأنت).. فإذا لم توجد الرغبة في ذلك فلن ينفع بعد ذلك وعظ، ولن تؤثر آيات ولن تفلح البينات.. ولذلك قال سبحانه: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا )(العنكبوت: من الآية69)، وقال: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ )(الرعد: من الآية11)، (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ)(محمد:17)، فلابد من رغبة مني ومنك في طلب التزكية وسعي في تحصليها ثم يأتي فتح الله.

ثانيا المربي: ففي طريق التربية لابد من شيخ بصير عالم بعيوب النفوس وأدران القلوب ومداخل الشياطين، وطرائق الأهواء، وخبايا أمراض القلب والنفس وسبل علاجها، ووسائل التخلص منها.. هاد خريت، قد سبر أغوار الطريق، ووضحت له معالمه.

دوره أن يوجهك ويرشدك، ويحثك ويستثير همتك وعزمك، ويقترح عليك، ويختار لك، بل يلزمك أحيانا بما يخالف هواك وقد يكون بشيء ترى أنت أنك لا تفلح فيه ويرى هو أنك لا تصلح إلا به وله. وقد قالوا قديما: لولا المربي ما عرفت ربي.

وفي زمن الصحابة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المربي والمزكي لأصحابه: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة"، وكانوا جميعا قد اتخذوه دليلا في سفرهم؛ حتى كان أبو بكر في طريق الهجرة إذا سئل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذا هاد يهديني الطريق. يظن السائل أنه الطريق إلى المدينة، ويقصد أبو بكر الطريق إلى الله.

فإن قلت وأين المربون؟ وهؤلاء الدعاة والمشايخ مشغولون؟ قلنا من ظن أنه لا يصلح لتربيته إلا مشاهير الأعلام فهو مغرور.. وأما من صدق في طلب من يأخذ بيديه وبحث عنه وجده ولابد، وربما كان شيخا كبيرا في زاوية، أو تقيا خفيا لا يعرفه الناس قد شد رحاله إلى الله، فما عليك إلا البحث وستجده حتما؛ فإن الله لا يعطي منحة السير إلا من حرص وبذل وضحى.. فابحث واصدق واحرص واصبر تعن وتوفق وهذه من أصول السير إلى العزيز الغفار.

ثالثا الرفقة: فطريق التزكية سفره طويل، وكل سفر يحتاج إلى رفقة تأنس بهم، وتذهب عنك وحشة التفرد وتصحح لك الأخطاء، ويعينونك على تخطي عقبات الطريق.

فلابد أن تتخذ لك صديقا حفيا، وخلا وفيا، وصاحبا ذكيا زكيا، لكن لابد وأن يكون مطلبه مطلبك، وهدفه هدفك، وغايته غايتك، مقصوده الوصول إلى الله والحرص على طاعته.. شرطه أن يكون قلبه قريبا من قلبك ومنهجه نفس منهجك، فالموافقة مطلوبة ولا مجال لطول الجدل وكثرة الاختلاف.

ثم قد يكون هذا الصاحب زوجة أو أبا أو أخا أو ابنا أو صاحبا وصديقا المهم أن تكون همته عالية، ونيته صافية، ورغبته في تحقيق المطلوب عالية، يكون لك وتكون له، كاليدين تغسل إحداهما الأخرى، إذا نسيت ذكرك، وإذا ذكرت أعانك، وأنت معه كذلك.. قال صلى الله عليه وسلم: "رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فإن أبت نضح في وجهها الماء ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء"(رواه أبو داود وابن ماجة وهو صحيح).

رابعا منهج التزكية: وعندما نقول منهج لا بد وأن يأتي على بالك أن منهجنا هو منهج أهل الحق أهل السنة والجماعة، كتاب وسنة بفهم سلف الأمة، ويقفز إلى البال قوله صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنتي" رواه أحمد والترمذي. وقوله: "تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك".(رواه أحمد والترمذي). فالدين قد كمل، والطريق وصفت، والمعالم نصبت، والأصول وضعت، ومنهج الرسول معصوم، فلا حاجة لنا إلى شطحات المبتدعين، ولا فزلكة المتفزلكين، ولا لحداثة من يسمون أنفسهم بالمستنيرين.

هذا هو الإطار العام للمنهج، أما تفاصيله فلا بد من وضع منهج مفصل تحدد فيه ماذا ستفعل؟ وكم ؟ وكيف؟

مثلا: كان صلى الله عليه وسلم يصلي في اليوم والليلة 40 ركعة، 17 فريضة،12 راتبة، و11 تهجدا، وكان إذا فاته شيء منها قضاه، حتى ثبت أنه قضى سنة الظهر بعد العصر فإن كنت تطيق هذا فالتزمه ولا تفرط.

وكان الصحابة يحزبون القرآن، وكان منهم من يختم كل جمعة مرة، فيقرأ 5 أجزاء يوميا.. فإن كنت تطيق فافعل وإياك والاستسهال.

وإن كنت لا تطيق فاختر لنفسك ما تطيقه، ولكن لابد من تحديد ذلك ومعرفته، فالمقصود أن تجعل لك منهجا واضحا.

كم ستصلي في اليوم من ركعات؟ كم ستصوم في الأسبوع من أيام؟ كم ستقرأ القرآن؟ كم هو وردك من الذكر والتسبيح؟ وكذا العلم والدعوة؟ ومتى سيكون ذلك؟

حدد ولا تترك الأمور مبهمة لأنه على أساس هذا التحديد ستكون المحاسبة وبدون وجود هذا المنهج المحدد لا تأملن في خير.

وأخيرا: عليك البداية وعليه التمام.

إن الله تعالى أناط البداية بك وأحالها عليك رعاية لجلال العزة وحماية لجناب العظمة، أن يدخل العبد على السيد، ثم يكون من السيد القبول والإكرام.

قال تعالى: "ادعوني استجب لكم"، وفي الحديث القدسي: "ابن آدم قم إليّ أمش إليك، وأمش إليّ أهرول إليك" "صححه الألباني". وفي الحديث القدسي الآخر: "ومن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا، ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة".

إن صلاح النفس والقلب لا يأتي بمعجزة ولا بضربة حظ، ولكن رغبة يتبعها عمل يليه توفيق من الله.

نسأل الله تعالى أن يفتح علينا خزائن النعم، ويتفضل علينا بالرحمة والكرم؛ إنه خير مسئول وأعظم مأمول.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

راجع أصول الوصول للشيخ محمد حسين يعقوب

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة