الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تزكية النفوس.. المقصد الثاني للبعثة النبوية

تزكية النفوس.. المقصد الثاني للبعثة النبوية

تزكية النفوس.. المقصد الثاني للبعثة النبوية

كانت أصول مقاصد بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم ثلاثة:

أولها: تلاوة الآيات.. بمعنى بيان المنهج وتوضيح الطريق والسبيل. وثانها: تزكية النفوس وتطهيرها، وثالثها: تعليم الكتاب والحكمة بمعرفة الأمور والوقائع والأحداث والحكم عليها بالحكم الصائب وتنزيلها حق منازلها. وهذا ما دل عليه قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الجمعة:2)

فالتزكية كانت المقصد الثاني من هذه المقاصد، فالله تعالى إنما أرسل رسوله لهذه الأمة وهؤلاء الفئام من الناس لمقصد بينه بقوله: "ويزكيهم": أي يربيهم.. أي يطهرهم وينقيهم.. يطهر قلوبهم ومشاعرهم.. يطهر بيوتهم وأعراضهم.. يطهر حياتهم ومجتمعهم.. يطهر نفوسهم من كل ما يلوثها ويشينها.. يصفي عقائدهم.. ويطهر سرائرهم.. ويزكي أخلاقهم.

وبالفعل طهر النبي صلى الله عليه وسلم عقائدهم مما لوثها من الشرك والوثنية:

فقد كانوا يعيشون في عمى استنقذهم منه إلى نور الوحي والهداية.. روى الدارمي عن مجاهد قال: حدثني مولاي أن أهله بعثوا معه بقدح فيه لبن وزبد إلى آلهتهم قال فما منعني أن أكل الزبد إلا مخافتها. قال: فجاء كلب فشرب اللبن وأكل الزبد وبال على الصنم ثم ذهب.

وقال هارون بن معاوية: كان الرجل إذا سافر يحمل معه أربعة أحجار ثلاثة لقدره والرابع يعبده، ويربي كلبه ويقتل ولده.

وعن أبي رجاء : كنا في الجاهلية إذا أصبنا حجرا حسنا عبدنا فإذا لم نصب جمعنا كثبة من رمل ثم جئنا بالناقة الصفي فنفاج عليها (يعني نحلب عليها شيئا من اللبن) فنعبد تلك الكثبة من الرمل ما أقمنا بالمكان. فنقلهم من هذه الخرافات والأوهام إلى عبادة وتوحيد الملك العلام.

كما طهر أعراضهم مما لحقها من أوحال وأوضار:

لقد كان الرجل منهم إذا رأى رجلا نجيبا أرسل إليه امرأته لتأتي له منه بولد نجيب، تماما كما يرسل الرجل بهيمته إلى الفحل النجيب لتأتي منه بنتاج جيد.

وكان العشرة من الرجال يدخلون مجتمعين على المرأة الواحدة كلهم يصيبها فإذا ولدت اختارت منهم من شاءت فتلصق به ولدها.

وأما من جهة الأخلاق فقد قوم اعوجاج أخلاقهم، وضبط لهم انحراف أفكارهم وأعمالهم، فنقلهم من الشرك وأكل الميتة، وإتيان الفواحش، وقطع الأرحام، وإساءة الجوار، إلى عبادة الله وحده وخلع ما سواه، وإلى صدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار.

لقد كانت الجاهلية تعيش في وحل فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستخرجها منه بمنّة الله وفضله: "لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين".

وإنما كان ذلك بعمل دائب، وجهد جهيد، وتضجية تجل عن الوصف.. وقد أخذت هذه المرحلة الأولى منفردة أكثر من نصف عمر الرسالة 13 سنة في مكة كلها تأصيل لمفهوم الإسلام وأساسيات العقيدة وبناء للنفوس وتزكية للعقول وتطهيرللقلوب.. ثم جاء بعد ذلك دور الشريعة وبناء الدولة في المدينة.

لا للقهر.. نعم للتزكية

إن الذي يقرأ سيرة النبي صلوات الله وسلامه عليه يعلم تمام العلم أن قريشا عرضت على النبي الرياسة ضمن ما عرضت عليه من مغريات وربما يتعجب بعض الناس وربما يقول آخرون: لقد كانت فرصة العمر التي فاتت من أجل الإسراع بإقامة دولة الإسلام وتمكين دين الله في الأرض.

لقد كان يمكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبل الملك والرئاسة، ومن موقع القيادة يقيم الأمة ويبلغ الدين ويفعل ما يريد.. أليس كذلك؟

فلم لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم هذا العرض الفائق وهذا الكلام الرائد؟ ولماذا فوت هذا الفرصة السانحة؟

لماذا ترك صناديد قريش وأشرافها، وذهب يبحث عن بلال وعمار وزيد بن حارثة.. ويفتش في الزوايا والخبايا عن مؤمن يؤمن به ويتبعه ويقبل دين الله الذي أرسل به؟

لأن الذي لا ينطق عن الهوى ولا يتصرف إلا بوحي كان يعلم أن هذا الدين لا يقيمه إلا أناس تربوا في محضنه، وتشربوا بعقيدته وتأدبوا بأخلاقياته قوم خلت قلوبهم عن كل شيء إلا محبة هذا الدين ، محبة خالقهم وعبوديته، ومحبة نبيهم ورسولهم وتعزيره وتوقيره، وإرخاص أنفسهم، قبل أموالهم، من أجل هذا الدين.

أناس حياتهم بالدين ومماتهم للدين يصدق فيهم قوله تعالى: " قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك"، وبغير هؤلاء فلا قيام للأمة التي تسمى بأمة الإسلام.

ومن ثم كان أكبر همّ النبي صلى الله عليه وسلم في بداية الأمر تربية الصحابة بمكة بدار الأرقم على الصلاة وتلاوة القرآن وقيام الليل كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: فرض الله عز وجل على نبيه قيام الليل، فقال صلى الله عليه وسلم وقام المؤمنون معه حولا كاملا، واحتجز الله عز وجل خاتمة السورة اثني عشر شهرا ثم نزل بعد ذلك التخفيف.

أليس من الغريب العجيب أن يفرض قيام الليل قبل أن تفرض الصلوات الخمس وقبل أن تنزل الحدود والتشريعات؟ وإنما كان ذلك لتربية هذا العصبة المؤمنة وإعدادا لها لتحمل مشاق الدعوة وتبعات التكليف.

ومن أجل هذا التربية تميز القرآن المكي ببناء العقيدة، وذكر الأخوة ، وحكاية قصص الأنبياء وابتلاءات السابقين، وذكر الجنة والنار؛ كما قالت عائشة رضي الله عنها : أول ما نزل من القرآن (يعني بعد سورة العلق) سورة فيها ذكر الجنة والنار. تعني سورة المدثر وفيها (سأصليه سقر....) وفيها ( كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين...). حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام.

وقالت أيضا: أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا جارية ألعب (بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر)، وما نزلت البقرة والنساء إلا وأنا عنده بالمدينة.

ومن أجل هذه التربية أيضا أُمر المسلمون في أول الأمر بالعفو والصفح بكف الأيدي وعدم رد الاعتداء بالاعتداء (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون)، (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة).

كل ذلك حتى لا ينشغلوا بالمعارك الجانبية، ويتفرغوا للتزكية والتربية، ويتعودوا الطاعة في المنشط والمكره، ويتعلموا ضبط النفس وعدم الانتصار إلا للحق والدين، وأن يقفوا مع أمر الله وأمر رسوله حيث كان ولو كان فيه أذى النفوس وذلها وحاشَا.

بين النصوص والشخوص
إن النصوص وحدها لا تصنع شيئا، وإن المصحف وحده لا يعمل حتى يكون رجلا، وإن المبادئ وحدها لا تعيش إلا أن يتمثل سلوكا يراه الناس.

كما يقول صاحب الظلال: "ثلاث عشرة سنة كاملة همً رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها أن يصنع رجالا لا أن يلقي مواعظ، وأن يصوغ ضمائر لا أن يدبج خطبا، وأن يبني أمة لا أن يقيم فلسفة، فالفكرة والمنهاج تكفل القرآن ببيانها وحفظها، والمطلوب أن يتحول المنهج إلى رجال تلمسهم الأيدي وتراهم الأعين. وهو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم حين صاغ الإسلام شخوصا، وطبع من القرآن آلاف النسخ لا بالمداد على صحائف الورق إنما طبعها بالنور على صفحات القلوب، وأطلق جيلا يتعامل مع الناس ويقول بالأفعال والأعمال والأخلاق هذا هو الإسلام الذي جاء به محمدٌ صلى الله عليه وسلم من عند الله تبارك وتعالى".

ونحن إذا أردنا أن نعيد بناء أنفسنا وبناء أمتنا فلا بد من اتباع نفس السبيل، وسلوك نفس الطريق الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقيم الأمة.. فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. وقد بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بتعليم الصحابة العقيدة وأصول الدين مع الاهتمام الخاص بالتربية والتزكية والصفاء والنقاء قبل أن يعلمهم تفصيلات الدولة والتشريع.

ولا بد لنا أن ننهج نفس المنهاج فإنك إذا أوجدت القاعدة العريضة من الناس الفاهمين لعقيدتهم ومسؤولياتها، وإذا كثر المربون المزكون تربية إسلامية صحيحة، فستأتي الدولة لا محالة بطبيعة ويسر بحكم اقتناع الأمة بالدين ورغبتها فيه.

فالوصول إلى النظام الإسلامي الكامل لا يمكن تحقيقه إلا بعد نقل المجتمعات ذاتها أو جملة صالحة منها ذات و زن وثقل في مجرى إلى أن تكون صالحة لحمل الدين وأداء الأمانة .. وهذا هو معنى كون التزكية مقصدا من مقاصد البعثة النبوية المطهرة. والله تعالى أعلى وأعلم.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة