الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

سؤال الهداية أجل المطالب

سؤال الهداية أجل المطالب

سؤال الهداية أجل المطالب

أرسل الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، وأنزل عليه القرآن الكريم كتاب هداية ورحمة، فدعا به الناس إلى الدخول في دين الحق والاستقامة عليه. فمن استجاب لداعي الملك واتبع سبيل الهدى واستقام عليه فقد أفلح وأنجح.

فسبيل النجاة إيمان بالله واتباع صراطه، ثم الاستقامة على هذا الطريق المستقيم.. كما روى الإمام ابن حبان وابن ماجة والمنذري عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يارسول الله مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحدا غيرك. قال: قل آمنت بالله ثم استقم.

فأمره أن يدخل الإسلام وأن يستقيم عليه.. وهذا مثل قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الاحقاف:13)، وقوله سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (فصلت:30)
قال أبو بكر: استقاموا فعلا كما استقاموا قولا.
وقال عمر: لم يروغوا روغان الثعالب.
وقد روي في بعض الآثار عند تفسير هذا القول: "قد قال الناس.. ولكن خالفت أفعالهم أقوالهم.

ومن هنا كان سؤال الله الهداية إلى الصراط المستقيم من مهمات مقاصد المسلم، وقد أمر الله عباده المؤمنين أن يسألوه هذا السؤال ويطلبوا منه هذا المطلب العظيم في كل يوم سبع عشرة مرة على أقل تقدير في صلواتهم المفروضات وذلك في قولهم في فاتحة الكتاب: (اهدنا الصراط المستقيم).

والصراط المستقيم فسره أهل التفسير بأمور تعود كلها إلى نفس المعنى:
فقال ابن عباس وجماعة: هو الإسلام، دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره.
وقال على: هو القرآن. وقد قال عنه واصفا له في موطن آخر: "كتاب الله: فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل، ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد،ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: {إنا سمعنا قرآنا عجبا . يهدي إلى الرشد فآمنا به }، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم".
وقال مجاهد في تفسير الصراط المستقيم: هو الحق.
وقال أبو العالية: محمد صلى الله عليه وسلم وصاحباه.

وكلها تعود لمعنى واحد: فمن اتبع محمدا صلى الله عليه وسلم، فقد سلك سبيل صاحبيه، وقد قبل الحق، ورضي بالقرآن، ودخل في الإسلام.
وكذلك من دخل الإسلام، فقد قبل الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وتابعه عليه صاحباه رضوان الله عليهما، وقد رضي بالقرآن. فكلها تحمل نفس المعنى فهي من اختلاف التنوع لا التضاد.

سؤال الهداية أجل المطالب
وسؤال الله الهداية إلى الصراط المستقيم أجل المطالب، ونيله أشرف المواهب، وضرورة العبد إليها فوق كل ضرورة، وحاجته إليها أعظم من كل حاجة. فإن الناس قد انقسموا بحسب معرفة الحق والعمل به إلى أقسام:
قوم علموا الحق، وقوم جهلوا به... والذين علموه منهم من عمل به ومنهم من أعرض عنه .
فصار الناس أقساما ثلاثة لا رابع لها:
القسم الأول: أناس جهلوا الحق وضلوا عنه ولم يهتدوا إليه، وهؤلاء هم الضالون. مثل النصارى، والمشركين وعباد البقر والشجر والحجر.. وفيهم قال الله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) (المائدة:77)

القسم الثاني: أناس علموا الحق ولكنهم أعرضوا عنه وخالفوه بعد معرفتهم له.. وهؤلاء هم المغضوب عليهم من اليهود ومن شابههم، وفيهم قال سبحانه: (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ) (البقرة:90)

والقسم الثالث: هم الذين علموا الحق وقبلوه، وعملوا به وارتضوه.. وهؤلاء هم الذين أنعم الله عليهم بالهداية إلى الحق ووفقهم وأعانهم على العمل به وهم الذين ذكرهم الله في قوله: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً) (النساء:69)

فنحن محتاجون أن نسأل الله أن يجعلنا ممن عرف الحق وعمل به، ويدخلنا في زمرة أهل النعمة الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وألا يجعلنا من المغضوب عليهم ولا الضالين. وهو ما علمنا الله إياه في سورة أم القرآن فأمرنا أن نقول: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) (الفاتحة:6،7)

الحاجة إلى الهداية
فإذا علمت أن سبيل الحق وطريقه واحد لا يوصل إلى الله غيره، وأن سبل الغواية كثيرة متعددة وطويلة متشعبة ومن سلكها هلك في أوديتها فلا أمل له في الوصول ولا بلوغ المأمول كما في حديث ابن مسعود عند ابن ماجة وغيره قال: [خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ثم قال: هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ثم قال: هذه سبل قال يزيد: متفرقة على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله }

فإذا علمنا هذا علمنا مدى الحاجة إلى سؤال الله الهداية إلى هذا السبيل دون غيره من سبل الغواية والضلال.

وقد يظن البعض أنه طالما هو من المسلمين فلا يحتاج إلى هذا السؤال، وهذا غير صحيح.. فإن ما نجهله من الدين ومن أوامره وأحكامه أضعاف أضعاف ما نعلمه منه، وحين نسأل الله هداية الصراط المستقيم فكأننا نسأله أن يهدينا إلى علم ما غاب عنا علمه من هذه الأمور، وأن يرزقنا معرفة ما جهلناه منها.

وما نريد عمله قليل جدا بالنسبة لما نعلمه، إما تهاونا وكسلا، أو جبنا وشحا وبخلا أو لغير ذلك.. فنحن نسأل الله بسؤال الهداية أن يحرك عزائمنا ويوجه إراداتنا إلى الرغبة في العمل بما نعلمه.

وحين توجه الإرادة فقد نستطيع العمل وقد لا نقدر عليه، وما نريد عمله ولا نقدر عليه أمر يفوت الحصر كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد والإنفاق مع قلة ذات اليد.... فنحن نسأل الله بالهداية أن يعيينا ويهبنا القدرة على فعل ما عجزنا عنه.

وفي النهاية لو قلنا إن عبدا قد أحاط بالدين علما ولم ينتقص شيئا منه عملا، فكمل له العلم والعمل ـ لو صح هذا جدلا ـ لم يكن في غنى أيضا عن طلب الهداية، بل كان سؤال الهداية هنا رغبة إلى الله أن يثبته الله على ما هو عليه من الخير، فكم من إنسان ضل الطريق بعد أن شارف على الوصول، وكم من عبد انتكس وقد دخلت إحدى قدميه القبور، وكم ممن عاش دهرا على طريق أهل الحق والخير والدين والإيمان حتى لم يعد بينه وبين الجنة إلى ذراع فسبق عليه الكتاب فعمل بعمل أهل النار فختم له بالسوء والعياذ بالله رب العالمين.. ولذلك قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) (النساء:136) أي اثبتوا على هذا الإيمان ولا تحولوا عنه ولا تضلوا عن طريقه.
وكان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: [يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك].

والتزام الصراط المستقيم في هذه الحياة الدنيا والثبات عليه يورث العبد الثبات على الصراط المضروب على متن جهنم يوم القيامة، ومعلوم أن هذا الصراط الأخروي من أشد الأشياء حدة وأكثرها خطرا وهلكة، فهو دحض مزلة، أحد من السيف، وأدق من الشعر، وأحر من الجمر، وعليه كلاليب وحسك وشوك، كما أن صراط الدنيا عليه شبهات وشهوات وأهواء ومرغبات وشهوات نفس تحيد بصاحبها عنه وتدعوه للخروج منه كما في معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: [حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات]... وهذه المعوقات في الدنيا هي الكلاليب التي تخطف الناس على صراط الآخرة.. فمن خطفته في الدنيا شهوة أو شبهة أو هوى أو غيرها خطفه كلابها في الآخرة من على الصراط فيوقعه في النار إلا أن يتغمد الله العبد برحمته ..

فمن أراد نجاة الآخرة فليسأل ربه الثبات على صراط الدنيا، ولا يفتر لسانه عن سؤال الهداية إلى الصراط المستقيم .
اللهم اهدنا صراطك المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. آمين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
راجع "مدارج السالكين" لابن قيم الجوزية

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة