الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن العفو عن الحقوق قد جاءت نصوص كثيرة في الحض عليه، وبيان فضله، وقد ذهب بعض العلماء إلى استحباب عفو الشخص عن حقوقه مطلقًا؛ قال ابن تيمية: {الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين} فذكر: أنه يحب المحسنين، والعافين عن الناس. وتبين بهذا أن هذا من الإحسان. والإحسان: ضد الإساءة؛ فالكاظم للغيظ والعافي عن الناس قد أحسن إلى نفسه وإلى الناس؛ فإذا كان المظلوم يستحق عقوبة الظلم ونفسه تدعوه إليه، فكف نفسه عن ذلك ودفع عنه - أي: عن الظالم - ما يدعوه إليه من إضراره، فهذا إحسان منه إليه وصدقة عليه، والله تعالى يجزي المتصدقين ولا يضيع أجر المحسنين. فكيف يسقط أجر العافي؟!
وهذا عام في سائر ما للعبد من الحقوق على الناس؛ ولهذا إذا ذكر الله في كتابه حقوق العباد، وذكر فيها العدل ندب فيها إلى الإحسان؛ فإنه سبحانه يأمر بالعدل والإحسان. كما قال تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون}. فجعل الصدقة على المدين المعسر بإسقاط الدين عنه خيرا للمتصدق من مجرد إنظاره. وقال تعالى: {ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا} فسمى إسقاط الدية: صدقة. وقال تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى} فجعل العفو عن نصف الصداق الواجب على الزوج بالطلاق قبل الدخول أقرب للتقوى من استيفائه.
وقال تعالى حكاية عن لقمان أنه قال لابنه: {وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور}، وقال تعالى: {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل * إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم * ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور}. فهناك في قول لقمان ذكر الصبر على المصيبة فقال: {إن ذلك من عزم الأمور}، وهنا ذكر الصبر والعفو فقال: {إن ذلك لمن عزم الأمور} وذكر ذلك بعد قوله: {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل * إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق} فذكر سبحانه الأصناف الثلاثة في باب الظلم الذي يكون بغير اختيار المظلوم؛ وهم: العادل والظالم والمحسن؛ فالعادل: من انتصر بعد ظلمه، وهذا جزاؤه أنه ما عليه من سبيل فلم يكن بذلك ممدوحا، ولكن لم يكن بذلك مذموما. وذكر الظالم بقوله: {إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق} فهؤلاء عليهم السبيل للعقوبة والاقتصاص. وذكر المحسنين فقال: {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور}.
وكما أن من توهم أنه بالعفو يسقط حقه أو ينقص: غالط جاهل ضال؛ بل بالعفو يكون أجره أعظم؛ فكذلك من توهم أنه بالعفو يحصل له ذل ويحصل للظالم عز واستطالة عليه، فهو غالط في ذلك. كما ثبت في الصحيح وغيره عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ثلاث إن كنت لحالفا عليهن: ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما نقصت صدقة من مال، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله". فبين الصادق المصدوق: أن الله لا يزيد العبد بالعفو إلا عزا، وأنه لا تنقص صدقة من مال، وأنه ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله. وهذا رد لما يظنه من يتبع الظن وما تهوى الأنفس من أن العفو يذله، والصدقة تنقص ماله، والتواضع يخفضه.
وفي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ما ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خادما له، ولا امرأة، ولا دابة، ولا شيئا قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا نيل منه قط شيء فانتقم لنفسه، إلا أن تنتهك محارم الله؛ فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله.
وخلُق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القرآن؛ أكمل الأخلاق، وقد كان من خلُقه: أنه لا ينتقم لنفسه، وإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله؛ فيعفو عن حقه ويستوفي حق ربه. اهـ. باختصار.
وإذا كان العفو عن الحقوق مستحبًّا مطلقًا فهو للقريب أشد استحبابًا؛ لما في ذلك من الصلة. وعفوك عن حقك ليس فيه تضييع لحق أولادك -كما يزعم زوجك-، فالحق لك وحدك، وكذلك لا يلزمك طاعة زوجك إذا أمرك بطلب حقك، وانظري في هذا الفتوى رقم: 50343.
وأما زوجك: فصلته لقرابتك ليست بواجبة عليه ما داموا ليسوا من ذوي رحمه.
لكن مع أن العفو مندوب إليه إلا أن طلبك لحقك ليس من قطيعة الرحم؛ فلك أن تطالبي بحقك من قرابتك مع بقاء الصلة ودون قطيعة.
وانظري للفائدة الفتوى رقم: 133912.
والله أعلم.