الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فلا يصح الاقتداء بإمام الحرم أو غيره على الصورة المذكورة في السؤال، عند عامة أهل العلم، وهذا هو المنقول عن عمر رضي الله عنه، ففي مصنف ابن أبي شيبة عن نعيم قال: قال عمر: إذا كان بينه وبين الإمام طريق أو نهر أو حائط فليس معه.
وفي درر الحكام شرح غرر الأحكام وهو من كتب الفقه الحنفي: (ويمنع الاقتداء الطريق الواسع) بين الإمام والمقتدي وهو الذي تجري فيه العجلة والأوقار (والنهر الكبير) وهو الذي يجري فيه الزورق.
وفي المدونة في مذهب مالك: قال: وقال مالك في القوم يكونون في السفن يصلي بعضهم بصلاة بعض وإمامهم في إحدى السفائن وهم يصلون بصلاته وهم في غير سفينته، قال: فإن كانت السفن بعضها قريبة من بعض فلا بأس بذلك. وفي موضع آخر من المدونة قال: وسألنا مالكاً عن النهر الصغير يكون بين الإمام وبين قوم وهم يصلون بصلاة الإمام؟ قال: لا بأس بذلك إذا كان النهر صغيراً. وفي موضع ثالث: قلت: ما قول مالك في صلاة الرجل على قعيقعان وعلى أبي قبيس بصلاة الإمام في المسجد الحرام؟ قال: لم أسمع فيه شيئاً ولا يعجبني.
وفي الأم للإمام الشافعي: قال الشافعي: فإن صلى في دار قرب المسجد لم يجزه إلا بأن تتصل الصفوف ولا حائل بينه وبينها.
وقال صاحب مطالب أولي النهى وهو حنبلي: في شروط صحة الاقتداء السابع: (عدم حاجز بينهما من طريق أو نهر) تجري فيه السفن.
وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: واتفقوا -أي العلماء- على عدم صحة الاقتداء إذا حال بين الإمام والمقتدي نهر كبير تجري فيه السفن، ومثله الطريق الذي يمكن أن تجري فيه عجلة عند أكثر الفقهاء.
فهذه النقول وما جاء في معناها، تبين أن الفقهاء اشترطوا لصحة الاقتداء ألا يفصل بين الإمام والمأموم فاصل كبير، كنهر كبير تجري فيه السفن، أو طريق نافذ يمر فيه الناس، وذلك لأن الجماعة مشتقة من الاجتماع في الزمان، والمكان، والحكمة المبتغاة من ذلك هي اجتماع المسلمين، وهذا ما لا يتحقق في متابعة المأموم للإمام عبر التلفاز أو المذياع، حيث يصلي كل إنسان في بيته؛ بل ربما يفضي ذلك إلى تعطل المساجد عن صلاة الجماعة، ولا سيما إذا ظن الناس أنه يمكنهم وهم في بيوتهم أن يصلوا جماعة بصلاة الحرم المكي أو المدني، فإنه لن يأتي إلى المساجد إلا النزر اليسير.
وذا تقرر هذا، فهل إذا بطل الاقتداء بالإمام تبطل صلاة المقتدي؟ بحيث تبطل الصلاة السابقة التي صلتها السائلة بالاقتداء بالإمام عبر التلفاز، في ذلك خلاف بين العلماء، مبني على خلافهم في مدى ارتباط صلاة الإمام بالمأموم، وقد لخص شيخ الإسلام أقوال العلماء في ذلك واختار التفريق بين حال العذر وغيره، فقال رحمه الله: في انعقاد صلاة المأموم بصلاة الإمام الناس فيه على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا ارتباط بينهما، وأن كل امرئ يصلي لنفسه، وفائدة الائتمام في تكثير الثواب بالجماعة وهذا هو الغالب على أصل الشافعي...
والقول الثاني: أنها منعقدة بصلاة الإمام وفرع عليها مطلقاً.... وهذا مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد اختارها أبو الخطاب..
والقول الثالث: أنها منعقدة بصلاة الإمام لكن إنما يسري النقص إلى صلاة المأموم مع عدم العذر منهما، فأما مع العذر فلا يسري النقص.... وهذا قول مالك وأحمد وغيرهما، وعليه يتنزل ما يؤثر عن الصحابة في هذه المسألة وهو أوسط الأقوال.
وبناء على ما اختاره شيخ الإسلام فإن الصلاة السابقة التي صليت بهذا الاقتداء الذي لا يصح، صحيحة، لأن السائلة معذورة في هذا الاقتداء حيث إنها أقدمت عليها بعد استفتاء، ولكن محل ذلك أن تكون السائلة قد أدت صلاتها مستوفية الأركان والشروط اللازمة لصحتها كقراءة الفاتحة ونحوها؛ وإلا وجب عليها القضاء.
والله أعلم.