الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنه لا يشترط للحديث الصحيح تعدّد الطرق، بل قد يصحّ الحديث الفرد الذي ليس له إلا طريق واحد، يدلّ عليه قول مسلم كما أشار إليه العراقي في الألفية:
وقول مسلم روى الزهري تسعين فردًا كلها قوي.
فقد يصحّ الحديث من بعض الطرق، وتكون الطرق الأخرى شاذة، أو منكرة ضعيفة؛ فلا يلزم من الحكم للحديث بالصحة أن تكون جميع طرقه صحيحة.
وأما الحكم بضعف الحديث الذي له أكثر من طريق؛ فإنه يلزم منه ضعف كل الطرق، إلا أن يخصّص الحكم بأن يقال: "ضعيف من طريق فلان عن فلان"؛ فعندئذ لا يلزم من ذلك التقييد ضعف الحديث؛ إذ قد يثبت من طرق أخرى، وهذا هو الذي تدلّ عليه مثل تلك العبارة غالبًا.
وأما مصطلح: "حديث"، فهل المقصود به ما رواه نفس الصحابي، أو ما اتحد متنه ولو رواه أكثر من صحابي؟
فالجواب: أن هذا الإطلاق قد اختلف فيه أهل الحديث على قولين:
فمنهم من نظر إلى اتحاد لفظ المتن، وتعدّده بشرط اتّحاد المعنى، فاعتبروه حديثًا واحدًا، ما دام لفظه واحدًا، ولو عن أكثر من صحابي، فإن اختلف لفظه -ولو عن صحابي واحد-، فكل لفظٍ حديثٌ مستقلّ، ففي الصورة الأولى، قالوا: هذه متابعة، وفي الصورة الثانية، سمّوه: شاهدًا.
والمتأخّرون من أهل الحديث قالوا: العبرة باتّحاد الصحابي، فهو حديث واحد، ولو اختلف لفظ المتن عنه ما دام المعنى واحدًا، وتلك الطرق عنه هي متابعة.
فإن تعدّد الصحابي تعدّد الحديث، وهذا يسمّى عندهم: شاهدًا، قال حافظ الحكمي في شرح اللؤلؤ المكنون: هذا هو القول المعتمد عند المتأخّرين من أهل العلم، وعليه الأكثر.. انتهى.
وعليه فحديث أبي هريرة يختلف عن حديث ابن عباس، ولو اتّحد اللفظ عند أهل العلم، فهذا حديث وهذا حديث.
وأما لو اتّحد الصحابي، صار حديثًا واحدًا، ولو اختلف اللفظ مع اتّحاد المعنى.
مع العلم أن بعض أهل العلم توسّع في عدّ الحديث المرويّ عن صحابي واحد أحاديث متعددة بعدد طرقه إلى ذلك الصحابي؛ وبهذا فُسِّرت عبارة البخاري في عبارته المشهورة: أحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح. قال الزركشي في النكت -موجِّهًا عبارة البخاري-: فيه وجهان:
أحدهما: أنه أراد به تعدّد الطرق والأسانيد.
والثاني: أن مراده بالأحاديث ما هو أعمّ من المرفوع، والموقوف، وأقاويل السلف.
وعلى هذا حمل البيهقي -في مناقب أحمد- قول أحمد: "صحّ من الحديث سبعمائة ألف"، على أنه أراد أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقاويل الصحابة، والتابعين. انتهى.
والله أعلم.