السؤال
أنا الآن في التاسعة عشرة من عمري، وأشعر أني أعاني من مشكلة نفسية، ولا أعلم هل هي عقاب من الله، أم ابتلاء، أم ذنب يجب عليّ التخلص منه، وهذه المشكلة تمنعني من القيام بالأعمال الدينية، والدنيوية، فأنا أرى الناس دائمًا أفضل مني في الدنيا، وفي الأخرى، فعندما أجد حافظًا للقرآن، أقول في نفسي: هو خير منك، قد منَّ الله عليه بحفظ القرآن، وأنت (أقصد نفسي) بالكاد تحفظ بعض السور القصيرة، وعندما أجد شخصًا قد منَّ الله عليه بالقدرة على تعلّم مهارات جديدة، أو تعلّم لغات، أقول في نفسي: انظر إلى نفسك، كيف أضعت كل هذا الوقت دون تعلّم مهارة جديدة.
الخلاصة: أني أشعر دائمًا أن الناس خير مني في الأعمال الدينية، والدنيوية، وأشعر أني أسوأ الناس، وأقارن حياة الناس بحياتي دائمًا، فهل هذا ابتلاء، أم عقاب، أم مشكلة نفسية، أم ذنب؟ وهل هناك حل لهذا؟ جزاكم الله خيرًا، وبارك الله فيكم.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فعليك أن تستحضر نعمة الله عليك، وتعلم أن ما أنت فيه من الخير، أفضل بكثير مما أوتيه غيرك.
وإياك والنظر إلى من هو فوقك في أمور الدنيا؛ فإن ذلك ذريعة لتزدري نعمة الله عليك، وتسيء الظن به -سبحانه-؛ فلا تشكر ما أولاك من الفضل.
وأما نظرك إلى من هو فوقك في أمور الدِّين، فليكن بقصد التأسّي والاقتداء به، لا لمجرد جلب الحزن والهمّ، وازدراء نفسك واحتقارها، وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فذلك أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم.
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: وَزَادَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ الْمَذْكُورَةِ: فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. أَيْ: هُوَ حَقِيقٌ بِعَدَمِ الِازْدِرَاءِ، وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنْ زَرَيْتُ عَلَيْهِ، وَأَزْرَيْتُ بِهِ، إِذَا تَنَقَّصْتُهُ. وَفِي مَعْنَاهُ مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ -رَفَعَهُ-: أَقِلُّوا الدُّخُولَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ؛ فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ.
قَالَ ابن بَطَّالٍ: هَذَا الْحَدِيثُ جَامِعٌ لِمَعَانِي الْخَيْرِ؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ لَا يَكُونُ بِحَالٍ تَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ مُجْتَهِدًا فِيهَا، إِلَّا وَجَدَ مَنْ هُوَ فَوْقَهُ. فَمَتَى طَلَبَتْ نَفْسُهُ اللَّحَاقَ بِهِ، اسْتَقْصَرَ حَالَهُ؛ فَيَكُونُ أَبَدًا فِي زِيَادَةٍ تُقَرِّبُهُ مِنْ رَبِّهِ. وَلَا يَكُونُ عَلَى حَالٍ خَسِيسَةٍ مِنَ الدُّنْيَا، إِلَّا وَجَدَ مِنْ أَهْلِهَا مَنْ هُوَ أَخَسُّ حَالًا مِنْهُ، فَإِذَا تَفَكَّرَ فِي ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ وَصَلَتْ إِلَيْهِ دُونَ كَثِيرٍ مِمَّنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، مِنْ غَيْرِ أَمْرٍ أَوْجَبَهُ؛ فَيُلْزِمُ نَفْسَهُ الشُّكْرَ؛ فَيَعْظُمُ اغْتِبَاطُهُ بِذَلِكَ فِي مَعَادِهِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَوَاءُ الدَّاءِ؛ لِأَنَّ الشَّخْصَ إِذَا نَظَرَ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ، لَمْ يَأْمَنْ أَنْ يُؤَثِّرَ ذَلِكَ فِيهِ حَسَدًا، وَدَوَاؤُهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ دَاعِيًا إِلَى الشُّكْرِ. وَقَدْ وَقَعَ فِي نُسْخَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ -رَفَعَهُ- قَالَ: خَصْلَتَانِ مَنْ كَانَتَا فِيهِ كَتَبَهُ اللَّهُ شَاكِرًا صَابِرًا: مَنْ نَظَرَ فِي دُنْيَاهُ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ؛ فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَى مَا فَضَّلَهُ بِهِ عَلَيْهِ. وَمَنْ نَظَرَ فِي دِينِهِ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ؛ فَاقْتَدَى بِهِ.
وَأَمَّا مَنْ نَظَرَ فِي دُنْيَاهُ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ، فَأَسِفَ عَلَى مَا فَاتَهُ، فَإِنَّهُ لَا يكْتب شاكرًا وَلَا صَابِرًا. انتهى كلام ابن حجر.
والحاصل؛ أن عليك أن تنظر إلى من فضِّلت عليه في أمر الدنيا؛ لتكثر شكر نعمة الله تعالى، وأن تنظر في الدِّين إلى من هو فوقك، لا لتتحسر وتأسف على ما فات، بل لتقتدي به في الخير.
والنفس على ما عوّدتها تتعود؛ فاحملها على الخير، وجاهد هذه الخصلة السيئة فيك، سائلًا المعونة من الله تعالى؛ فإن القلوب بين إصبعين من أصابعه -سبحانه-، يقلّبها كيف يشاء.
والله أعلم.