السؤال
هل صحيح أن الإلهام مصدر للأحكام الشرعية عند بعض الحنابلة، والحنفية؟ وكيف يعرف أن الإلهام من الله، أو الملائكة؟ وهل يوجد دليل؟
هل صحيح أن الإلهام مصدر للأحكام الشرعية عند بعض الحنابلة، والحنفية؟ وكيف يعرف أن الإلهام من الله، أو الملائكة؟ وهل يوجد دليل؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالذي عليه جمهور العلماء أن الإلهام ليس حجةً، ولا مصدرًا من مصادر التشريع.
وقد خالف بعضهم في تفصيل ذلك، لكن المعتدّ به في المذاهب الأربعة، وغيرها هو عدم حجية الإلهام، وأنه ليس من مصادر التشريع.
وأما بخصوص مذهب الحنفية، فكتب أصولهم تنصّ على عدم الحجية، بل وتردّ شهادة من يقول بذلك، كما في «أصول السرخسي»: قالوا فيمن يعتقد أن الإلهام حجة موجبة للعلم: لا تقبل شهادته؛ لتوهّم أن يكون اعتمد ذلك في أداء الشهادة؛ بناء على اعتقاده. اهـ.
وقال أبو زيد الدبوسي الحنفي في «تقويم الأدلة في أصول الفقه»: ونشأ قوم من الحبية، فزعموا أنهم أحباء الله عجبًا بأنفسهم، وأن الله تعالى يتجلّى لقلوبهم ويحدّثهم، فرأوا لذلك حديث أنفسهم حجة، واتخذوا أهواءهم آلهة، فلم يبقَ عليهم سبيل للحجة -والعياذ بالله-. اهـ.
وكذلك الحنابلة لا يقولون بحجية الإلهام، وإنما ينسبون ذلك لأفراد من متأخري الشافعية، قال ابن بدران في «المدخل إلى مذهب الإمام أحمد»: الإلهام اختاره جماعة من الأصوليين المتأخرين، منهم الفخر الرازي في تفسيره عند كلامه على أدلة القبلة، وابن الصلاح في فتاواه، قال: ومن علامته أن ينشرح له الصدر، ولا يعارضه معارض آخر. وقال: إلهام خاطر الحق من الحق. انتهى.
قلت: وهذا المسلك سرى للقوم من جهة المتصوفة، ولو فتح بابه لأدّى إلى مفاسد كثيرة، ولكان للمتدلسين مدخل لإفساد أكثر الشرع.
فالصواب أن لا يلتفت إليه، وإلا لادّعى كثير منهم إثبات ما يلذّ لهم بالإلهام، والكشف، فكان وحيًا زائدًا على ما أوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم، ولادّعى المخرقون شركته في رسالته. اهـ.
والذي يتحصّل من كلام أهل العلم المعتبرين في قضية الإلهام أن ذلك لا يلتفت إليه إلا عند عدم الأدلة الشرعية، أو عند تكافئها في نظر الناظر، إذا كان من أهل العلم والصلاح؛ وحينئذ يعمل به في خاصّة نفسه، ولا يقيمه دليلًا على غيره، قال الحافظ ابن رجب في «جامع العلوم والحكم» في شرح حديث: استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس .. قال: في الجملة، فما ورد النص به، فليس للمؤمن إلا طاعة الله ورسوله ...
وأما ما ليس فيه نصّ من الله ورسوله، ولا عّمن يقتدى بقوله من الصحابة، وسلف الأمة، فإذا وقع في نفس المؤمن المطمئن قلبه بالإيمان، المنشرح صدره بنور المعرفة واليقين منه شيء، وحكّ في صدره لشبهة موجودة، ولم يجد من يفتي فيه بالرخصة إلا من يخبر عن رأيه، وهو ممن لا يوثق بعلمه وبدِينه، بل هو معروف باتّباع الهوى، فهنا يرجع المؤمن إلى ما حاك في صدره، وإن أفتاه هؤلاء المفتون ...
وقد ذكر طوائف من فقهاء الشافعية، والحنفية المتكلمين في أصول الفقه مسألة الإلهام: هل هو حجة أم لا؟ وذكروا فيه اختلافًا بينهم. اهـ.
وقد عقد أبو زيد الدبوسي الحنفي فصلًا مطولًا في «تقويم الأدلة في أصول الفقه» عن الإلهام، ذكر فيه الأقوال وأدلتها، ونصر قول جمهور العلماء: إنه خيال، لا يجوز العمل به إلا عند فقد الحجج كلها في باب ما أبيح عمله بغير علم. اهـ.
وقال السمرقندي الحنفي في «ميزان الأصول في نتائج العقول»: قال عامة العلماء بأن الإلهام الحق يجب العمل به في حق الملهم، وليس بحجة في حق الغير، ولا يجوز له أن يدعو غيره إليه. وقال قوم من الصوفية بأنه حجة في حق الأحكام، نظير النظر والاستدلال. وقول قوم من الروافض، لقبوا بالجعفرية: إنه لا حجة سوى الإلهام. اهـ.
وقال أيضًا: الحل الثابت بدليله، لا يجوز تحريمه بشهادة القلب، والحرمة الثابتة بدليلها، لا تزول بشهادة القلب.
فأما عند عدم الدلائل الأربعة، فالإلهام يكون حجة في حق الملهم، لا في حق غيره ... والإلهام الذي من الله تعالى لا يكون إلا صوابًا وحقًّا. فأما الإلهام الذي يكون باطلًا، فهو وسوسة الشيطان، وتمنّي النفس، وليس بإلهام حقيقة؛ فدل على التفرقة بين الأمرين. اهـ.
وبهذا يعرف أن الإلهام لا يصحّ أن تعارض به الأدلة الشرعية الظاهرة، وإلا فهو من مكايد الشيطان، وتسويل النفس الإمارة بالسوء؛ ولذلك قال ابن حجر الهيتمي في «تحفة المحتاج»: وقع لليافعي مع جلالته في روضه: لو أذن الله تعالى لبعض عباده أن يلبس ثوب حرير مثلًا، وعلم الإذن يقينًا، فلبسه، لم يكن منتهكًا للشرع، وحصول اليقين له من حيث حصوله للخضر بقتله للغلام؛ إذ هو ولي، لا نبي على الصحيح. انتهى.
وقوله: .. إن أراد بعدم انتهاكه للشرع أن له نوع عذر، وإن كنا نقضي عليه بالإثم، بل والفسق، إن أدام ذلك، فله نوع اتجاه. أو أنه لا حرمة عليه في لبسه -كما هو الظاهر من سياق كلامه-، فهو زلّة منه؛ لأن ذلك اليقين إنما يكون بالإلهام، وهو ليس بحجة عند الأئمة؛ إذ لا ثقة بخواطر من ليس بمعصوم، وبفرض أنه حجة، فشرطه عند من شذّ بالقول به أن لا يعارضه نصّ شرعي، كالنص بمنع لبس الحرير المجمع عليه إلا من شذ ممن لا يعتدّ بخلافه فيه، وبتسليم أن الخضر ولي، وإلا فالأصح أنه نبي، فمن أين لنا أن الإلهام لم يكن حجة في ذلك الزمن؟ وبفرض أنه غير حجة، فالأنبياء في زمنه موجودون، فلعل الإذن في قتل الغلام جاء إليه على يد أحدهم!؟. اهـ.
والخلاصة: أن الإلهام ليس مصدرًا للأحكام الشرعية، وأن من يقولون باعتباره من أهل العلم ينصّون أنه لا يستقلّ بالحجية، ولا يعارض بالنصوص الشرعية، ولا يستدلّ به لعمل العامة، وإنما يعمل بها الشخص في خاصّة نفسه عند الترجيح والاختيار، إذا تكافأت عند الناظر الأدلة السمعية الظاهرة، ويكون ذلك في حق المستقيم على السنة، عامر القلب بالتقوى، المجتهد في معرفة مراد الله، واتباع أمره؛ وبهذا يفرق بين الإلهام الرباني والوسواس الشيطاني، قال ابن السمعاني في «قواطع الأدلة في الأصول»: اعلم أن إنكار أصل الإلهام لا يجوز، ويجوز أن يفعل الله تعالى بعبد بلطفه كرامة له، ونقول في التمييز بين الحق والباطل من ذلك: إن كل من استقام على شرع النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن في الكتاب والسنة ما يردّه، فهو مقبول، وكل ما لا يستقيم على شرع النبي صلى الله عليه وسلم، فهو مردود، ويكون ذلك من تسويلات النفس، ووساوس الشيطان، ويجب ردّه، على أنا لا ننكر زيادة نور الله تعالى كرامة للعبد، وزيادة نظر له، فأما على القول الذى يقولونه، وهو أن يرجع إلى قلبه في جميع الأمور، فلا نعرفه. اهـ.
والله أعلم.
يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني