السؤال
قلتم في الفتوى: 116065: إنه ينبغي على كل أحد أن يقول: (لله المثل الأعلى) إذا ضرب مثلًا للخالق بالمخلوق، وهذا مشهور جدًّا، ولكن ماذا تقولون فيمن استدل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم لما ضرب مثلًا لفرحة الله بالتائب بمن ضلّ بعيره في الصحراء...الحديث، وحديث أن الله يربّي الصدقة للعبد كما يربّي أحدكم فلوّه. ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول -أعني: (ولله المثل الأعلى)-، وهو أولى، وهو الذي جاء يعلّم الأمة، خاصة العقيدة، فهل في هذا دليل على أنه قول ليس بلازم، وأنه إن لم يقله أحد فلا يجوز الإنكار عليه؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فليس معنى ما ورد في الفتوى: 116065 من عبارة: (إذا قارن مثلًا لمخلوق بمثل لله تعالى، فينبغي أن يقول ذلك تعظيمًا لله تعالى، وتنزيهًا له عن صفات المخلوقين) أن ذلك واجب، أو ملزِم، يُنكَر على من لم يقله! وإنما المقصود أن ذكرها أفضل، ولو في بعض الأحيان.
ودليل ذلك استعمال القرآن ذاته، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [الروم: 27]، فلما كان قوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} إنما هو باعتبار حال المخاطبين من الخلق، وما عهدوه في قدرتهم، قال بعدها: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} نفيًا لتفاوت القدرة بالنسبة لله تعالى، قال ابن عطية في المحرر الوجيز بعد أن استظهر أن الضمير في قوله: {أَهْوَنُ عَلَيْهِ} يعود على الله تعالى، قال: ويؤيده قوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى} لما جاء بلفظ فيه استعارة، واستشهاد بالمخلوق على الخالق، وتشبيه بما يعهده الناس من أنفسهم، خلص جانب العظمة بأن جعل له المثل الأعلى الذي لا يتصل به تكييف، ولا تماثل مع شيء. اهـ.
وروى أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب: العظمة، عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون أنه قال في كلام طويل له: هو ابتدع الخلق وابتدأهم، وعلم قبل أن يكونوا ما يصيرون إليه، ثم هين بعد ذلك تكوينهم عليه، قال: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه}، وليس بأهون عليه من شيء، ولكنه قال ذلك مثلًا وعبرة؛ ليعرف العباد ما وصف به من القدرة، وله المثل الأعلى، وكيف يكون شيء أهون عليه من شيء وإذا أراد شيئًا يقول: «كن» فيكون!؟ إنما هو كلمة ليس لها عليه مؤونة، لا يبعد عليها كبير، ولا يقل عليها صغير، خلق السماوات والأرض وما بينهما كخلق أصغر خلقه، قال: {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة} [لقمان:28]. اهـ.
وهذا الاستعمال دارج في كلام أهل العلم، ولا سيما عند إرادة نفي التكييف، والتمثيل، ومن ذلك قول شيخ الإسلام ابن تيمية -كما في مجموع الفتاوى-: قوله -صلى الله عليه وسلم-: {إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فإن الله قبل وجهه، فلا يبصق قبل وجهه} الحديث. حق على ظاهره، وهو سبحانه فوق العرش، وهو قبل وجه المصلي؛ بل هذا الوصف يثبت للمخلوقات؛ فإن الإنسان لو أنه يناجي السماء، أو يناجي الشمس والقمر، لكانت السماء والشمس والقمر فوقه، وكانت أيضًا قبل وجهه. وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل بذلك -ولله المثل الأعلى-، ولكن المقصود بالتمثيل بيان جواز هذا وإمكانه؛ لا تشبيه الخالق بالمخلوق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما منكم من أحد إلا سيرى ربه مخليًا به. فقال له أبو رزين العقيلي: كيف -يا رسول الله- وهو واحد ونحن جميع؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله، هذا القمر كلكم يراه مخليًا به، وهو آية من آيات الله؛ فالله أكبر. اهـ.
ومن المعلوم أن شبهة التمثيل، والتكييف -فضلًا عن التحريف، والتعطيل-، لم تكن موجودة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، فلم تحصل الحاجة لإيراد هذه العبارة حين ضرب المثل لصفة من صفات الله تعالى، فلما طرأت هذه الشبهات وقويت، احتاج أهل العلم إلى استعمال هذه العبارة: (ولله المثل الأعلى) نفيًا لشبهات أهل الزيغ، كما في قول قوام السنة الأصبهاني في كتاب: «الحجة في بيان المحجة»: أما البصير: فهذا الاسم يقع مشتركًا، فيقال: فلان بصير، ولله المثل الأعلى. اهـ. وقول ابن بطة العكبري في «الإبانة الكبرى»: العلم منه ومتصل به، كما أن شعاع الشمس متصل بعين الشمس، فإذا غابت عين الشمس، ذهب الشعاع، ولله المثل الأعلى، والله عز وجل هو الدائم الأبدي الأزلي، وعلمه أزلي. اهـ.
والله أعلم.