السؤال
ما حكم من ارتد عن دين الإسلام، وعاد مرة أخرى؛ لأجل أن يغفر الله جميع ذنوبه، حينما كان مسلما في أول حياته"الإسلام يهدم ما قبله"؟
ما حكم من ارتد عن دين الإسلام، وعاد مرة أخرى؛ لأجل أن يغفر الله جميع ذنوبه، حينما كان مسلما في أول حياته"الإسلام يهدم ما قبله"؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمن ارتد عن الإسلام؛ فقد أتى فعلا عظيما، يوجب له الخلود في النار لو مات على ذلك. فإن تاب ورجع إلى الإسلام؛ فقد أحسن صنعا، والله يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات.
وأما أعماله التي كانت قبل الردة، فلا تحبط، بل يرجع إليه ثوابها، وإنما يهدم الإسلام ما كان من عمل السيئات. وأما الأعمال الصالحة، فيبقى له ثوابها بعد إسلامه.
وهذه المسألة محل خلاف بين أهل العلم، وما ذكرناه هو الصحيح، وهو مذهب الشافعية والحنابلة، خلافا للأحناف والمالكية.
قال القرطبي: قال القشيري: فمن ارتد؛ لم تنفعه طَاعَاتُهُ السَّابِقَةُ، وَلَكِنَّ إِحْبَاطَ الرِّدَّةِ الْعَمَلَ مَشْرُوطٌ بِالْوَفَاةِ عَلَى الْكُفْرِ، وَلِهَذَا قَالَ:"مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ" فالمطلق ها هنا مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: مَنْ حَجَّ ثُمَّ ارْتَدَّ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ، لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الْحَجِّ. قُلْتُ: هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَعِنْدَ مَالِكٍ تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ. انتهى.
وقال أبو حيان مبينا الخلاف في المسألة، ودليل كلا الفريقين في تفسير قوله تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ {البقرة:217}: وَظَاهِرُ هَذَا الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ تَرَتُّبُ حُبُوطِ الْعَمَلِ عَلَى الْمُوَافَاةِ عَلَى الْكُفْرِ، لَا عَلَى مُجَرَّدِ الِارْتِدَادِ. وَهَذَا مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمُ: الشَّافِعِيُّ، وَقَدْ جَاءَ تَرَتُّبُ حُبُوطِ الْعَمَلِ عَلَى مُجَرَّدِ الْكُفْرِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ. وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ. لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ.
وَالْخِطَابُ فِي الْمَعْنَى لِأُمَّتِهِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَغَيْرُهُمَا، يَعْنِي: أَنَّهُ يَحْبَطُ عَمَلُهُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ دُونَ الْمُوَافَاةِ عَلَيْهَا، وَإِنْ رَاجَعَ الْإِسْلَامَ.
وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي الْمُسْلِمِ إِذَا حَجَّ، ثُمَّ ارْتَدَّ، ثُمَّ أَسْلَمَ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَلْزَمُهُ الْحَجُّ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ. وَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ: اجْتَمَعَ مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ، فَتَقَيَّدَ الْمُطْلَقُ.
وَيَقُولُ غَيْرُهُ: هُمَا شَرْطَانِ تَرَتَّبَ عَلَيْهِمَا شَيْئَانِ، أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ: الِارْتِدَادُ، تَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُبُوطُ الْعَمَلِ، الشَّرْطُ الثَّانِي: الْمُوَافَاةُ عَلَى الْكُفْرِ، تَرَتَّبَ عَلَيْهَا الْخُلُودُ فِي النَّارِ. انتهى. والصحيح أن المطلق يحمل على المقيد، وأن الردة لا تحبط العمل إلا بالشرط المذكور في الآية، وهو الموافاة على الكفر، فإذا عاد إلى الإسلام، عاد إليه عمله الصالح.
قال العليمي -الحنبلي- في تفسير قوله تعالى: فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ {البقرة:217}: في هذا دليل للشافعي وأحمد أن الردَّةَ لا تحبطُ العمل حتى يموتَ مرتدًّا، وأبو حنيفةَ ومالكٌ يبطلانه بالردَّة، وإن رجعَ مسلمًا. انتهى.
وأما إن كان المقصود السؤال عن شخص ارتد ليعود إلى الإسلام؛ فتغفر ذنوبه، لكون الإسلام يهدم ما كان قبله.
فقد ارتكب هذا الشخص خطأ عظيما جدا، ومخاطرة كبيرة، وما كان يؤمنه أن يموت في حال ردته، فيخلد في النار -والعياذ بالله- أو أن يطبع الله على قلبه، فلا يتوب من تلك الردة.
وقد كان يكفيه أن يتوب إلى الله من ذنوبه توبة نصوحا، فتمحو توبته كل ذنوبه، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: التائب من الذنب، كمن لا ذنب له. رواه ابن ماجه.
فإذا تاب هذا الشخص وعاد إلى الإسلام بعد ردته، وتاب من ذنوبه تلك؛ فيرجى أن يتوب الله عليه ويتجاوز عنه، والله ذو الفضل العظيم.
والله أعلم.
يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني