السؤال
أرسلت لصديقة أعرفها من أشهر هدية بغرض إدخال السرور على قلبها؛ لما رأيتها حزينة، ووضعت الهدية في علبة من علب أمّي لأناقتها، ومحاولة مني لتقديم الهدية بأفضل شكل يليق بصديقتي، وبعد فترة اكتشفت صديقتي أن هذه العلبة مكونة من ثلاث طبقات، وليست واحدة مثلما كنت أظن، وعندما فتحتها وجدت في الطبقة الثانية فردة حلق فضة، وبه أثر حرق، وفي ثالث طبقة الفردة الثانية للحلق ومعها فردة حلق أخرى واضح عليها القدم، و"حديد" كما وصفته، وبريمة حلق.
بعد ملاحظتي تغيّر تعاملها معي بفترة، وبعد إلحاح مني لمعرفة السبب أخبرتني بما وجدته، فأوضحت لها أنها ربما تخص أمّي، ولكني فوجئت باتّهامها لي بأن هذا "عَمل"، وإن لم يكن يخصّني، فهو لوالدتي وأنها تضرّ به أحدًا.
حاولت إقناعها أن ما ترمينا به أبعد ما يكون عنا، ولكنها كانت لا تسمع إلا صوتها؛ ولغضبي الشديد من أسلوبها وظلمها لنا، أخبرتها أني سأختصم معها أمام الله يوم القيامة.
وحين سألت والدتي أخبرتني أنها أشياؤها، ووضعتها متفرقة كعلامة؛ لأن بها ما أرادت تذكّر إصلاحه، وباقي الأشياء متعلقات قديمة خاصة بها. أخبرت صديقتي بذلك، فاستهزأت بكلام أمّي، وأصرّت على رأيها، بل رأت أن بي من الوقاحة ما لم تفهمه -لأني أقول: إنها تظلمنا-، وأشهدتُ الله أني سامحتها على سوء ظنّها بنا، ولكن قلبي يؤلمني من إحساس الظلم، ولا أستطيع نسيان ما بَدر منها، فهل هذا يعني أني لم أسامحها حقًّا؟ وكيف أهدأ حتى يأتي اليوم الذي تعلم فيه أنها قد ظلمتني ووالدتي؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقد أحسنت بإكرام صديقتك بالهدية، والرغبة في إدخال السرور عليها، ثمّ أحسنت بعفوك عن إساءتها إليك بسوء ظنّها، ومقابلتها الحسنة بالسيئة.
فأبشري خيرًا بالأجور العظيمة، والعاقبة الحميدة -بإذن الله-؛ لتلك الأعمال التي يحبها الله ويحب أهلها، ففي المعجم الكبير للطبراني عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ, أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ وَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكَشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلَأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخِي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ -يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ شَهْرًا- وَمَنَ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ، مَلَأَ اللهُ قَلْبَهُ رَجَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يَتَهَيَّأَ لَهُ، أَثْبَتَ اللهُ قَدَمَهُ يَوْمَ تَزُولُ الْأَقْدَامِ». حسنّه الألباني.
وما تجدينه في نفسك على صديقتك من سوء ظنّها، لا ينافي عفوك عنها، فالعفو يتحقق بترك المعاقبة والاقتصاص، ولو بقي في النفس أثر، قال القرطبي -رحمه الله- في تفسيره: وَالْعَفْوُ: تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ بِالذَّنْبِ. وَالصَّفْحُ: إِزَالَةُ أَثَرِهِ مِنَ النَّفْسِ. انتهى.
ومما يعينك على الصفح وينزل على قلبك السكينة؛ أن تتفكّري في عظيم أجرك، وجزيل ثوابك على العفو والصفح؛ قال تعالى: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {النور:22}، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: .. وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا.
والله أعلم.