الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالهبة لا تنفذ إلا بالحيازة أو القبض، وهذا الحوز والقبض لا يصح في الدار التي يسكن فيها الزوجان، إذا وهبها الزوج لزوجته مع بقاء الزوج ساكنا فيها.
جاء في الشرح الكبير للدردير: (و) صحت (هبة زوجة دار سكناها لزوجها) (لا العكس) وهو هبة الزوج دار سكناه لزوجته، فلا يصح؛ لعدم الحوز؛ لأن السكنى للرجل لا للمرأة؛ فإنها تبع له. اهـ.
وقال الدسوقي في حاشيته: (قوله: لا العكس) وهو هبة الزوج لزوجته دار سكناه، فلا يصح إذا استمر ساكنا فيها معها حتى مات. اهـ.
وقال الباجي في المنتقى: لو بقي فيها باكتراء، أو إرفاق، أو إعمار، أو أي وجه كان، فإن عيسى روى عن ابن القاسم في العتبية: ذلك يمنع صحة الحيازة؛ لأنه لا يصح فيها قبض ولا حيازة مع سكنى الواهب لها ... فلو كان الزوج الواهب للزوجة فيتمادى على السكنى معها فيها، لمنع ذلك صحة الحيازة؛ لأن سكناها على الزوج دون الزوجة، فسكنى الزوجة مع بقاء الزوج ليس بيد لها، وإنما اليد للزوج في المسكن، فلذلك صح أن يحوزها الزوج مع بقاء الزوجة فيها، ولم يصح أن تحوزها الزوجة مع بقاء الزوج فيها. اهـ.
وجاء في درر الحكام، نقلا عن أبي يوسف القاضي: لا يجوز للرجل أن يهب من امرأته، وأن تهب لزوجها أو الأجنبي دارا وهما ساكنان فيها، وكذلك الهبة للولد الكبير؛ لأن يد الواهب ثابتة على الدار. اهـ.
وكذلك لو خرج الزوج من الدار ولكن بقي فيها متاعه.
قال غياث الدين البغدادي في مجمع الضمانات: يجوز هبة الشاغل لا المشغول، والأصل أن اشتغال الموهوب بملك الواهب يمنع تمام الهبة إذ القبض شرط. وأما اشتغال ملك الواهب بالموهوب فلا يمنعه، كما في الفصولين: رجل وهب دارا لرجل، وسلم، وفيها متاع الواهب لا يجوز؛ لأن الموهوب مشغول بما ليس بهبة، فلا يصح التسليم.
امرأة وهبت دارا من زوجها، وهي ساكنة فيها، ومتاعها فيها، وزوجها ساكن معها في الدار جازت الهبة، ويصير الزوج قابضا للدار؛ لأن المرأة ومتاعها في يد الزوج، فصح التسليم.
رجل وهب دارا فيها متاع الواهب، أو جوالقا أو جرابا فيه طعام الواهب وسلم لا يجوز؛ لأن الموهوب مشغول بما ليس بهبة. ولو وهب المتاع والطعام دون الجوالق والدار وسلم جاز؛ لأن الموهوب غير مشغول بغيره، بل هو شاغل غيره. اهـ.
وقال ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الفقهية الكبرى: لا بد في القبض من خلوها من أمتعة غير الموهوب له، فمتى كانت مشغولة بأمتعة غيره لم يصح من الأب قبض ولا إقباض لها. وكذا الموهوبة لأجنبي لا يصح منه قبضها وإن أذن له فيه الواهب حيث كانت مشغولة بأمتعة الواهب، أو بأمتعة أجنبي آخر غير الموهوب له. اهـ.
وأصل هذا هو قبض المبيع في البيع.
قال النووي في منهاج الطالبين: وقبض العقار تخليته للمشتري، وتمكينه من التصرف بشرط فراغه من أمتعة البائع. اهـ.
وراجع للفائدة الفتاوى: 114780، 116708، 115455، 102458.
وإذا لم تحصل الحيازة حتى مات الواهب، فالهبة باقية على ملك الواهب، تنتقل بعد موته لورثته هو، وبالتالي، فليس للموهوب له أن يتصرف فيه ببيع ولا هبة.
وقول والد السائل: (هذا البيت لوالدتكم ما دامت هي على قيد الحياة) إن كان يريد بذلك أن يعمرها إياه -أي يملكها منفعته مدة حياتها أو عمرها- فالعمرى يشترط فيها ما يشترط في الهبة من أحكام، ولا تعود إلى الواهب بعد موت الموهوب له (المعمَّر)، وإنما تنتقل إلى ورثة المعمَّر، عند جمهور الفقهاء، وراجع في ذلك الفتويين: 343183، 274522.
ثم إن الهبة إن صحت ونفذت في حياة الوالد، وانتقلت الدار بها إلى ملك الوالدة، فإن تفضيلها بعض أبنائها بالهبة دون مسوغ شرعي من مرض، أو كثرة عيال، أو اشتغال بطلب العلم ونحو ذلك: لا يجوز على المفتى به عندنا، وراجع في ذلك الفتويين: 107734، 171705.
والله أعلم.