السؤال
هل في قصة مقتل كعب بن الأشرف وخالد الهذلي والأسود العنسي ما يوحي بالتلفظ بالكفر دون إكراه؟ وإن كان كذلك، فما هو التأويل وخاصة تأويل قوله: فإنا نكره أن ندعه حتى ننظر في أي شيء يصير شأنه؟.
هل في قصة مقتل كعب بن الأشرف وخالد الهذلي والأسود العنسي ما يوحي بالتلفظ بالكفر دون إكراه؟ وإن كان كذلك، فما هو التأويل وخاصة تأويل قوله: فإنا نكره أن ندعه حتى ننظر في أي شيء يصير شأنه؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذه الحوادث التي أشار إليها السائل ألصق بباب الخدعة في الحرب، منها بباب الإكراه ومباحثه، وإن كان الجميع يشترك في أصل واحد، وهو إظهار خلاف الواقع، درءا لمفسدة كبرى، وأشهر الحوادث التي أشار إليها السائل وأصحها إسنادا: حادثة مقتل كعب بن الأشرف، فقد أخرج قصته البخاري في كتاب الجهاد من صحيحه، وبوب عليه: باب الكذب في الحرب ـ ثم في كتاب المغازي، وبوب عليه: باب قتل كعب بن الأشرف ـ وأسندها من حديث جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لكعب بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسوله، فقام محمد بن مسلمة فقال: يا رسول الله، أتحب أن أقتله؟ قال: نعم، قال: فأذن لي أن أقول شيئا، قال: قل، فأتاه محمد بن مسلمة فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، وإنه قد عنانا، وإني قد أتيتك أستسلفك، قال: وأيضا والله لتملنه، قال: إنا قد اتبعناه، فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه... الحديث.
قال الحافظ ابن حجر في شرح الموضع الأول: قال ابن المنير: الترجمة غير مطابقة، لأن الذي وقع منهم في قتل كعب بن الأشرف يمكن أن يكون تعريضا، لأن قولهم: عنانا ـ أي كلفنا بالأوامر والنواهي، وقولهم: سألنا الصدقة ـ أي طلبها منا ليضعها مواضعها، وقولهم: فنكره أن ندعه... إلخ، معناه: نكره فراقه، ولا شك أنهم كانوا يحبون الكون معه أبدا. انتهى. والذي يظهر أنه لم يقع منهم فيما قالوه شيء من الكذب أصلا، وجميع ما صدر منهم تلويح كما سبق، لكن ترجم بذلك لقول محمد بن مسلمة للنبي صلى الله عليه وسلم أولا: ائذن لي أن أقول، قال: قل ـ فإنه يدخل فيه الإذن في الكذب تصريحا وتلويحا... وقال ابن العربي: الكذب في الحرب من المستثنى الجائز بالنص، رفقا بالمسلمين لحاجتهم إليه، وليس للعقل فيه مجال، ولو كان تحريم الكذب بالعقل ما انقلب حلالا. انتهى. ويقويه ما أخرجه أحمد وابن حبان من حديث أنس في قصة الحجاج بن علاط الذي أخرجه النسائي وصححه الحاكم: في استئذانه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول عنه ما شاء لمصلحته في استخلاص ماله من أهل مكة، وأذن له النبي صلى الله عليه وسلم، وإخباره لأهل مكة أن أهل خيبر هزموا المسلمين، وغير ذلك مما هو مشهور فيه. اهـ.
وعلى مثل محمل كلام محمد بن مسلمة، يحمل كلام عبد الله بن أنيس في قصة قتله لخالد بن سفيان الهذلي، حيث لقيه فسأله خالد: من أنت؟ فقال له: رجل من العرب بلغني أنك تجمع لهذا الرجل، فجئتك في ذاك، فقال: إني لفي ذاك، قال: قلت في نفسي: ستعلم، قال: فمشيت معه ساعة، حتى إذا أمكنني علوته بسيفي حتى برد. رواه أبو داود، وصححه ابن خزيمة وابن حبان، وحسنه ابن حجر، وضعفه الألباني.
قال محمود خطاب السبكي في المنهل العذب المورود: قوله: أنك تجمع لهذا الرجل الخ ـ أي تجمع الجيوش لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فجئتك في ذاك: أي جئتك لجمعك الجيوش لذلك، وظاهر اللفظ أنه جاء لمساعدته، لكن عبد الله إنما جاء لقتله وإفساد تدبيره، ولم يفقه خالد ما أراده. اهـ.
وعلى هذا أيضا يحمل كلام قيس المرادي وفيروز الديلمي وداذويه وغيرهم في قصة قتلهم للأسود العنسي الكذاب لما استفحل أمره في اليمن، وراجع تفصيل ذلك في البداية والنهاية: 9 ـ 429 ـ 435ـ فقصة الجميع واحدة، فالحرب خدعة، والمفسدة فيها إذا اشتدت ولم يتيسر سبيل لدفعها إلا بمثل هذا التعريض المشابه للكذب، فليس فيه من حرج، وصاحبه عامل بالتقية الجائزة شرعا، والتي أشارت إليها الآية: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً {آل عمران: 28}.
قال الباحث عبد الله القرني في مبحث التقية والإكراه من رسالته للماجستير ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة: التقية من الاتقاء، وهي الاستخفاء بالإسلام لعذر يبيح ذلك، سواء كان ذلك بكتمان الدين وعدم إظهاره، أو بإظهار ما يخالف الإيمان من كفر أو معصية في الظاهر فقط، وهي حالة استثنائية لا تباح إلا لموجب، إذ الأصل في المسلم أن يتطابق ظاهره وباطنه، بحيث يكون ظاهره كباطنه، ولهذا كان التظاهر بكفر أو معصية من غير عذر نفاقاً وخداعاً لا يصح بحال في غير التقية، إلا في حال واحدة هي أن يكون ذلك حيلة لمصلحة المسلمين في الحرب خاصة دون غيرها، لما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: الحرب خدعة ـ رواه البخاري، ومثال ذلك ما فعله نعيم بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ حين أسلم أثناء حرب الأحزاب، ولم يكن أحد يعلم بإسلامه، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله؛ إني أسلمت فمرني بما شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنت رجل واحد، فخذل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة ـ وذهب إلى اليهود ومشركي قريش، وأوهمهم بما فرق الله به بينهم، وكان مع ذلك يتظاهر لكل منهم بالنصح، وأنه لم يسلم، فكتم إسلامه لأجل هذه المصلحة، وأما الخدعة بإظهار الكفر فمثاله ما حصل من محمد بن مسلمة وصحبه، حين قال الرسول صلى الله عليه وسلم: من لكعب بن الأشرف، فإنه آذى الله ورسوله ـ فقام محمد بن مسلمة فقال: يا رسول الله؛ أتحب أن أقتله؟ قال: نعم، قال: فأذن لي أن أقول شيئاً، قال: قل، فأتاه محمد بن مسلمة فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، وإنه قد عنانا، وإني قد أتيتك أستسلفك، قال: وأيضاً والله لتملنه، قال: إنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه ـ الحديث، فهذا محمد بن مسلمة ـ رضي الله عنه ـ يستأذن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول شيئاً، فيأذن له صلى الله عليه وسلم، فيتظاهر أنه منافق، وأنه لم يسلم رغبة في الإسلام، حتى يستدرج كعب بن الأشرف، وكان ذلك حين خرج له في الليل فقتله محمد بن مسلمة وأصحابه، وهذا مما يدخل في عموم الإعذار بمثل هذا في الحرب، ولهذا بوب الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ لهذه القصة بقوله: باب الكذب في الحرب ـ وبوب لهم الإمام أبي داود بقوله: باب: العدو يؤتى على غرة ويتشبه بهم ـ ومن كل ما سبق يعلم أن التقية إذا لم تكن لعذر تباح له، ولم تكن في حرب فإنها لا تكون إلاّ نفاقاً، فإن كان التظاهر للكفار بما هو كفر كان كفراً ونفاقاً أكبر، وإن كان بمعصية لم يكن ذلك من النفاق المخرج من الملة. اهـ.
والله أعلم.
يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني