السؤال
ما مدى إمكانية الاحتجاج بالآثار الواردة عن الصحابة في المسائل العلمية، وكذلك المواقف المروية عن العلماء في كتب التاريخ؟ وهل نعتمد قواعد أهل الحديث قبل اعتمادها والاحتجاج بما وردنا من خلالها من أحكام؟
ما مدى إمكانية الاحتجاج بالآثار الواردة عن الصحابة في المسائل العلمية، وكذلك المواقف المروية عن العلماء في كتب التاريخ؟ وهل نعتمد قواعد أهل الحديث قبل اعتمادها والاحتجاج بما وردنا من خلالها من أحكام؟
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الخلاصة في هذا الباب أن أئمة المحدثين يعاملون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم المنسوبة إليه في التدقيق في أسانيدها، ورجالها، بما لا يعاملون به المنقولات عن غيره صلى الله عليه وسلم، سواء كانت آثارًا عن الصحابة أو التابعين أو غيرهم، ومن أعظم ما يجلي ذلك: أن الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم نفسها يختلف تعامل نقاد المحدثين معها حسب الأبواب التي ترد فيها، ففي أبواب الحلال والحرام والأحكام يتشددون في نقد الأسانيد والرجال، وأما في غيرها كأبواب التفسير والسير والرقائق فيتساهلون في نقد أسانيدها، وفي رواية الضعيف فيها ـ وهذا فيما لا يرويه الكذابون أو شبههم، فمثل هذا لا يلفتون إليه أبداً ـ وهذا التساهل والتشديد منقول عن غير واحد من المتقدمين كابن مهدي وأحمد بن حنبل، وابن معين، وابن المبارك، والثوري، وحُكي الاتفاق عليه، وقال البيهقي عن الأحاديث الضعيفة المتفق على ضعفها: وهذا النوع على ضربين: ضرب رواه من كان معروفا بوضع الحديث والكذب فيه، فهذا الضرب لا يكون مستعملا في شيء من أمور الدين إلا على وجه التّليين، وضرب لا يكون راويه متهما بالوضع، غير أنه عرف بسوء الحفظ وكثرة الغلط في رواياته، أو يكون مجهولا لم يثبت من عدالته وشرائط قبول خبره ما يوجب القبول، فهذا الضرب من الأحاديث لا يكون مستعملا في الأحكام، كما لا تكون شهادة من هذه صفته مقبولة عند الحكّام، وقد يستعمل في الدعوات والترغيب والترهيب، والتفسير والمغازي فيما لا يتعلق به حكم. اهـ. من دلائل النبوة.
فإذا كان المحدثون يتساهلون في الأحاديث المرفوعة في غير الأحكام، فكيف إذًا بالتساهل في أسانيد المنقولات غير المرفوعة؟! قال الدكتور حاتم العوني: إن المحدثين قد دلت أقوالهم وتصرفاتهم أنهم كانوا يفرقون بين ما يضاف من الأخبار إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما يضاف إلى غيره، وما يضاف إلى غيره مما له علاقة بالدين وما لا علاقة له بالدين، بل لقد بلغ كمال علمهم إلى درجة التفريق بين ما يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعضه عن بعض، فلأحاديث الأحكام والعقائد منهج فيه اختلاف عن منهج التعامل مع أحاديث الفضائل والرقائق ونحوها، بل أحاديث الأحكام نفسها لهم منهج في التعامل مع الحديث الذي يكون أصلاً في بابه، والحديث الذي يعتبر من شواهد الباب، ولهم في جميع ذلك إبداعات تخضع لها العقول، ونفحات إلهام تشهد بأن علمهم علم مؤيد من الباري سبحانه.
ومن أصرح العبارات التي تدل على ذلك المنهج الحديثي، الباب الذي عقده الخطيب البغدادي في كتابه: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: 2ـ316ـ320ـ بعنوان: ما لا يفتقر كتبه إلى إسناد، وقول الخطيب: وأما أخبار الصالحين وحكايات الزهاد والمتعبدين، ومواعظ البلغاء، وحكم الأدباء فالأسانيد زينة لها، وليست شرطاً في تأديتها، ثم أسند الخطيب قصة رجل خرساني كان يجلس عند يزيد بن هارون فيكتب الكلام ولا يكتب الإسناد، فلما لاموه على ذلك قال: أنا للبيت أريده لا للسوق، فعلق الخطيب على ذلك بقوله: إن كان الذي كتبه الخرساني من أخبار الزهد والرقائق وحكايات الترغيب والمواعظ، فلا بأس بما فعل، وإن كان من أحاديث الأحكام وله تعلق بالحلال والحرام فقد أخطأ في إسقاط إسناده، لأنها هي الطريق إلى تثبته، فكان يلزمه السؤال عن أمره والبحث عن صحته، وفي هذا السياق أشير إلى قضية مهمة، ربما غفل عنها كثيرون، وهي أن لعلماء كل علم طريقتهم الخاصة في نقد علمهم، وفي الفحص عن صحة منقولهم ومعقولهم، ومن الخطأ الفادح أن نخلط بين معايير النقد المختلفة بين كل علم وآخر، لأن ذلك سيؤدي إلى هدم كل تلك العلوم! وأضرب على ذلك مثلاً: لو جئنا إلى الشعر الجاهلي وشعر صدر الإسلام، بل عموم دواوين الشعراء، خاصة في عصر الاحتجاج اللغوي، وأردنا أن نطبق عليها منهج المحدثين في نقد السنة هل سنزيد إلا أن نهدم لغة العرب، بأعظم مما أراد أن يهدمها به طه حسين! ذلك أن لأئمة اللغة معاييرهم الصحيحة الكافية لنقد علمهم، ولهم طرائقهم لفحص المنقول من اللغة، وقد بذلوا في ذلك جهوداً عظيمةً، أدّوا بها الأمانة العظمى الملقاة على عواتقهم، خدمة للغة القرآن والسنة، وفي هذا المجال أذكّر بضرورة تعظيم أئمة كل علم في علمهم، واحترام تخصصات أصحاب التخصصات، فلا نزاحمهم ما دمنا لسنا من أصحاب ذلك العلم، وخاصة أولئك الأعلام، ومن علماء علوم الإسلام، على اختلاف فنونها وأقصد من ذلك كله بيان أن التخفف من نقد المنقولات من غير السنة لا يعني أننا سنثبت بذلك غير الثابت، ولكن يعني أنّنا سنضع كل منقول في ميزانه الكافي لتمييز ثابته من غير الثابت منه. اهـ.
وقال الدكتور مساعد الطيار: ومما قد لا يخفى أن التفسير قد نُقِلَ بروايات يحكم علماء الحديث عليها بالضعف أو ما هو أشد منه، لكن الذي قد يخفى هو كيفية تعامل هؤلاء العلماء مع هذه الروايات في علم التفسير، ولتصوير الحال الكائنة في هذه الروايات، فإنك ستجد الأمر ينقسم بين المعاصرين وبين السابقين، فالفريق الأول: بعض المعاصرين يدعو إلى التشدد في التعامل مع مرويات السلف في التفسير، والفريق الثاني: جمهور علماء الأمة من المحدثين والمفسرين وغيرهم ممن تلقَّى التفسير واستفاد من تلك الروايات، بل قد اعتمدها في فهم كلام الله، هذه صورة المسألة عندي، والظاهر أن الاستفادة من هذه المرويات، وعدم التشدد في نقدها إسناديًا هو الصواب. اهـ.
وتراجع في هذا الفتوى: 271228.
بينما يرجح فريق آخر من المعاصرين أن آثار الصحابة ومن بعدهم تعامل معاملة الأحاديث المرفوعة في نقد أسانيدها. قال الحويني في مقدمة تحقيقه لتفسير ابن كثير: وقفتُ طويلاً في الحكم على الآثار التي يوردها ابن كثير: هل أخضعها لقواعد المحدّثين من النظر في رجال السند، واعتبار ما قيل فيهم من جرحٍ وتعديلٍ، أم أتساهل في ذلك؟ وأداني البحثُ والتأمل أنه لا بد من إخضاع كل ذلك لقواعد المحدّثين، إذ الكل نقلٌ، وأصول الحديث إنما وضعها العلماء لذلك، ولأني أشعر بخطورة الأمر، عرضتُ ما وصلتُ إليه على مَن أثق بعلمه ورأيه من شيوخي وإخواني، فكتبتُ لشيخنا الشيخ الإمام، حسنة الأيام، أبي عبد الرحمن ناصر الدين الألباني حفظه الله ومتّع به أذكر له ما انتهى إليه بحثي، وما اخترتُهُ منهجاً لي في العمل، وذلك في آخر شوال 1415 هـ، فأجابني إلى ما أردتُ برغم مرضه الشديد ـ آنذاك ـ عافاه الله ورفع عنه، وهاك رسالة شيخنا حفظه الله بحروفها: إلى الأخ الفاضل أبي إسحاق الحويني حفظه الله، ووفّقه إلى ما يحب ويرضاه، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أما بعدُ: فقد ذكرتَ ـ بارك الله فيك ـ أنك في صدد تحقيق تفسير الحافظ ابن كثير، وأن العلماء وطلبة العلم اختلفوا عليك في إخضاع أسانيد التفسير كلِّها لقواعد المحدّثين إلى فريقين:
أحدهما: يرى أن الإخضاع المذكور فيه تضييع للتفسير، إذ غالبُهُ نسخ وكتبٌ، كنسخة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وكتفسير السدّي وغيرها، ومن حجّتهم المقالةُ التي تُنسَب إلى الإمام أحمد قال: ثلاثة لا أصل لها، منها: التفسير، قالوا: معنى لا أصل لها، يعني: لا إسناد لها، فهذا يدلُّ على عدم اعتبار الإسناد في التفسير، فهل هذا صحيح؟ والآخر: يرى معك ضرورة إخضاع ذلك لقواعد المحدّثين، ثم رجوتَ أن أسطر لك جوابي عليه، فأقول مستعيناً بالله، ومعتذراً لك عن الإيجاز فيه نظراً لظروفي الخاصّة: لا أرى البته عدم تطبيق قواعد علم الحديث على الآثار السلفيّة، كيف؟ وهي في المرتبة الثانية بعد السنّة المحمديّة في تفسير الآيات الكريمة، فينبغي أن تُساق مساقها في تحقيق الكلام على أسانيدها. اهـ.
والله أعلم.
يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني