السؤال
هل صحيح أن جميع ما أمرنا الله به من أصول الدين يمكن أن نأخذه من القرآن، أو من القرآن والسنة دون اجتهاد العلماء، لأن أقوال العلماء ليس من الضروري أن تصل إلى جميع الناس، لأن رسالة رسولنا صلى الله عليه وسلم للعالمين، أقصد أن حجة الله على عباده هي القرآن والسنة وأن الذي يقرأ القرآن، أو القرآن والسنة تقوم عليه الحجة، ويستطيع أن يتعلم ما أوجبه الله عليه، لأن كتاب الله محكم؟ وهل هناك فرق بين القرآن والسنة في هذا الأمر بالذات، أعرف أن كلا منهما وحي؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا يتسنى الجواب عن هذا السؤال إلا بعد الاتفاق على ماهية ـ أصول الدين ـ التي ذكرها السائل في سؤاله! وهل يريد بها أمور الاعتقاد وحقائق الإيمان؟ أم يريد بها قواعد الدين وفرائضه المعلومة منه بالضرورة؟ أم يريد به محكمات الشريعة التي يُبنى عليها غيرها ويُرَدُّ إليها ما تشابه منها؟ أم غير ذلك!! وعلى أية حال، فيمكن إجمال ذلك بأن نقول: إن أصول الدين جميعها مبيَّن في الكتاب والسنة، بل إن ذلك حاصل حتى في الفروع إجمالا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلحق بالرفيق الأعلى إلا بعد إتمام الدين وإكماله وبيانه، قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا{المائدة: 3}. وقال سبحانه: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ {النحل: 44}. وقال عز وجل: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {النحل: 64}.
وقال أبو ذر رضي الله عنه: تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكرنا منه علما، قال: فقال صلى الله عليه وسلم: ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بُيِّن لكم. رواه الطبراني، وصححه الألباني.
وراجع للفائدة الفتويين: 285712، 309340.
ولكن هذا البيان: منه الواضح الجلي الذي يفهمه كل أحد، بل ومنه ما لا يعذر أحد بجهله! ومنه كذلك ما يلتبس على بعض الناس ويشتبه معناه، فلا يدركه إلا أهل العلم، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ {آل عمران: 7}.
قال السعدي في تفسيره: للمفسرين في الوقوف على: الله ـ من قوله: وما يعلم تأويله إلا الله ـ قولان، جمهورهم يقفون عندها، وبعضهم يعطف عليها: والراسخون في العلم ـ وذلك كله محتمل، فإن التأويل إن أريد به علم حقيقة الشيء وكنهه، كان الصواب الوقوف على: إلا الله ـ لأن المتشابه الذي استأثر الله بعلم كنهه وحقيقته، نحو حقائق صفات الله وكيفيتها، وحقائق أوصاف ما يكون في اليوم الآخر ونحو ذلك، فهذه لا يعلمها إلا الله، ولا يجوز التعرض للوقوف عليها، لأنه تعرض لما لا يمكن معرفته، كما سئل الإمام مالك ـ رحمه الله ـ عن قوله: الرحمن على العرش استوى ـ فقال السائل: كيف استوى؟ فقال مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة! فهكذا يقال في سائر الصفات لمن سأل عن كيفيتها أن يقال كما قال الإمام مالك: تلك الصفة معلومة، وكيفيتها مجهولة، والإيمان بها واجب، والسؤال عنها بدعة، وقد أخبرنا الله بها ولم يخبرنا بكيفيتها، فيجب علينا الوقوف على ما حد لنا، فأهل الزيغ يتبعون هذه الأمور المشتبهات تعرضا لما لا يعني، وتكلفا لما لا سبيل لهم إلى علمه، لأنه لا يعلمها إلا الله، وأما الراسخون في العلم فيؤمنون بها، ويكلون المعنى إلى الله، فيسلمون ويسلمون، وإن أريد بالتأويل التفسير والكشف والإيضاح، كان الصواب عطف الراسخون على الله، فيكون الله قد أخبر أن تفسير المتشابه وردَّه إلى المحكم وإزالة ما فيه من الشبهة: لا يعلمها إلا هو تعالى، والراسخون في العلم يعلمون أيضا، فيؤمنون بها ويردونها للمحكم ويقولون: كل ـ من المحكم والمتشابه: من عند ربنا... اهـ.
وبهذا يتبين أن مِن نصوص الوحي ما لا يصح فهمه إلا بالرجوع إلى العلماء الراسخين! ولهذا قسم ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ تفسير القرآن إلى أقسام، وفرق بين ما يُعرَف من مجرد معرفة اللغة، وبين ما لا يعذر أحد بجهله، وبين ما اختص العلماء بمعرفته، فروى عنه عبد الرزاق وابن جرير الطبري، قال: التفسير أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير تعرفه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى. اهـ
قال الزركشي في البرهان في علوم القرآن في بيان القسم الثاني: ما لا يعذر واحد بجهله، وهو ما تتبادر الأفهام إلى معرفة معناه من النصوص المتضمنة شرائع الأحكام ودلائل التوحيد، وكل لفظ أفاد معنى واحدا جليا لا سواه يعلم أنه مراد الله تعالى، فهذا القسم لا يختلف حكمه ولا يلتبس تأويله، إذ كل أحد يدرك معنى التوحيد من قوله تعالى: فاعلم أنه لا إله إلا الله ـ وأنه لا شريك له في إلهيته، وإن لم يعلم أن: لا ـ موضوعة في اللغة للنفي: وإلا ـ للإثبات، وأن مقتضى هذه الكلمة الحصر، ويعلم كل أحد بالضرورة أن مقتضى قوله تعالى: وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ـ ونحوها من الأوامر طلب إدخال ماهية المأمور به في الوجود، وإن لم يعلم أن صيغة افعل مقتضاها الترجيح وجوبا أو ندبا، فما كان من هذا القسم لا يقدر أحد يدعي الجهل بمعاني ألفاظه، لأنها معلومة لكل أحد بالضرورة. اهـ.
وقال في بيان القسم الثالث الذي يعلمه العلماء: ما يرجع إلى اجتهاد العلماء وهو الذي يغلب عليه إطلاق التأويل، وهو صرف اللفظ إلى ما يؤول إليه، فالمفسر ناقل والمؤول مستنبط، وذلك استنباط الأحكام وبيان المجمل وتخصيص العموم وكل لفظ احتمل معنيين فصاعدا فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه. اهـ.
ثم إنه لا يخفى أن الحجة وإن كانت في الكتاب والسنة، إلا أن هذا لا يتعارض مع كون بعض تفاصيل هذه الحجة يحتاج فهمها للرجوع لأهل العلم، ولذلك أمر الله تعالى من لا يعلم بسؤال أهل الذكر، وراجع في ذلك الفتاوى التالية أرقامها: 135397، 155471، 136283.
وأما الجزئية الأخيرة من السؤال فجوابها أنه: لا فرق في ذلك من حيث الأصل بين الكتاب والسنة، فمن السنة أيضا ما يحتاج العامي للرجوع لأهل العلم لفهمه ومعرفة دلالته وما فيه من أحكام.
والله أعلم.