السؤال
في كتاب الإيمان لابن تيمية، في حديث ابن الخطاب، عندما جاء جبريل، وسأل عن الإسلام والإيمان والإحسان، قال عليه الصلاة والسلام: هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم ـ مما يؤدي بنا أن نفهم أن هذه الأمور الثلاثة هي الدين، وأن من انتقص شيئًا منها، فقد انتقص شيئًا من الدين أصل الدين، وليس من الواجب المستحب -ككثير من الأعمال الأخرى-، ومن قوله تعالى: إن الدين عند الله الإسلام، نستنتج أن الإنسان إذا كان مؤمنًا ولم يكن محسنًا، فهو لم يأت بالدين الذي أمر الله به، كما أمر، ويجب أن يأثم، ويكون دينه ناقصًا، بل إن الله تعالى قال: أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض. والذي يعمل بالإيمان والإسلام، ولا يعمل بالإحسان يكون كالذي آمن ببعض الدين وكفر ببعضه، وهذا نستنتجه من جملة: جاءكم يعلمكم دينكم؛ مما يستوجب كفر الذي لا يأتي بهذه الثلاثة كفرًا دون كفر، أو كفرًا أكبر كما أراد الله، فهل هذا الاستنتاج صحيح؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فهذا الاستنتاج ليس بصحيح، ولا قريبًا من الصحيح، بل هو بعيد كل البعد عن الصحة!! فمن المعروف المقرر أن أركان الإسلام لا تتساوى في حكم تركها، فالشهادتان يكفر من تركهما بلا خلاف، والصلاة التي هي أعظم مباني الإسلام، وأركانه العملية، في كفر تاركها كسلًا خلاف مشهور، والجمهور على عدم كفره، فما بالك بكفر من ترك شيئًا من بقية الأركان الأربعة؟! قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: من ترك الشهادتين، خرج من الإسلام، وفي خروجه من الإسلام بترك الصلاة خلاف مشهور بين العلماء، وكذلك في تركه بقية مباني الإسلام الخمس. اهـ.
فهذا فيمن ضيع شيئًا من أركان الإسلام بعد الشهادتين، فما بالك بمن أتى بأركان الإسلام كلها، كيف يحكم عليه بالكفر بعد ذلك، وإن انتفى عنه كمال الإيمان، فضلًا عن الإحسان؟! وقد قال الله تعالى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ {الحجرات: 14}.
فنفى عنهم الإيمان، ولم ينف عنهم الإسلام! ثم إنه من المعروف أن الإيمان ـ فضلًا عن الإحسان ـ شعب ومراتب، بعضها أعلى من بعض، ولا يتفاوت الناس فيما بينهم في ذلك فحسب، بل إن المرء نفسه تتفاوت مرتبته من حال لآخر؛ لأن الإيمان يزيد وينقص، قال النووي في شرح مسلم: قال الخطابي:.. المسلم قد يكون مؤمنًا في بعض الأحوال، ولا يكون مؤمنًا في بعضها، والمؤمن مسلم في جميع الأحوال، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنًا، وإذا حملت الأمر على هذا، استقام لك تأويل الآيات، واعتدل القول فيها، ولم يختلف شيء منها، وأصل الإيمان: التصديق، وأصل الإسلام: الاستسلام والانقياد، فقد يكون المرء مستسلمًا في الظاهر، غير منقاد في الباطن، وقد يكون صادقًا في الباطن، غير منقاد في الظاهر، وقال الخطابي أيضًا في قول النبي صلى الله عليه وسلم: الإيمان بضع وسبعون شعبة ـ في هذا الحديث بيان أن الإيمان الشرعي اسم لمعنى ذي شعب وأجزاء، له أدنى وأعلى، والاسم يتعلق ببعضها، كما يتعلق بكلها، والحقيقة تقتضي جميع شعبه، وتستوفي جملة أجزائه، كالصلاة الشرعية لها شعب وأجزاء، والاسم يتعلق ببعضها، والحقيقة تقتضي جميع أجزائها وتستوفيها، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: الحياء شعبة من الإيمان ـ وفيه إثبات التفاضل في الإيمان، وتباين المؤمنين في درجاته. اهـ.
وقال أبو بطين في رسالته عن حكم من يكفر غيره من المسلمين، والكفر الذي يعذر صاحبه بالجهل: تضمن حديث جبريل عليه السلام هذه المراتب كلها لما سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، فأخبره صلى الله عليه وسلم بذلك، ثم قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم ـ فقد ينفى عن الرجل الإحسان ويثبت له الإيمان، وينفى عنه الإيمان ويثبت له الإسلام، كما في قوله عليه السلام: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ـ ولا يخرجه عن مرتبة الإسلام إلا الكفر بالله، والشرك المخرج من الملة، وأما المعاصي والكبائر -كالزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وأشباه ذلك-، فلا تخرجه عن دائرة الإسلام عند أهل السنة والجماعة، خلافًا للخوارج، والمعتزلة الذين يكفرون بالذنوب، ويحكمون بتخليد فاعلها في النار، واحتج أهل السنة والجماعة على ذلك بحجج كثيرة من الكتاب، والسنة، وأقوال الصحابة، والتابعين... فإن قيل: أليس ضد الإيمان الكفر؟
فالجواب: أن الكفر ضد أصل الإيمان؛ لأن الإيمان له أصول وفروع، فلا يثبت الكفر حتى يزول أصل الإيمان الذي هو ضد الكفر، فإن قيل: الذي زعمتم أن النبي صلى الله عليه وسلم أزال عنهم اسم الإيمان، هل بقي معهم من الإيمان شيء؟ قيل: نعم، أصله ثابت، ولولا ذلك لكفَّرهم. اهـ.
وراجع لمزيد الفائدة الفتوى رقم: 36574.
والله أعلم.