الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقد اهتم جماعة من العلماء والباحثين المعاصرين، ببحث الموضوعات المتعلقة بالعملات الورقية، وما يترتب على استعمالها من أحكام، ومن جملة قضايا البحث الشائكة: مسألة انخفاض قيمة العملة بسبب التضخم، وأثره بالنسبة للالتزامات المالية اللاحقة، والديون الآجلة، وفي هذه الحال هل يكون العدل باعتبار قيمة العملة أم مثلها؟
وقد قدمت عدة أبحاث في ذلك لمجمع الفقه الإسلامي، نشرت في العدد التاسع من مجلة مجمع الفقه الإسلامي. وهي هذه:
1. أثر التضخم والكساد في الحقوق والالتزامات الآجلة، وموقف الفقه الإسلامي منه. إعداد الدكتور علي محيي الدين القره داغي.
2. انخفاض قيمة العملة الورقية بسبب التضخم النقدي، وأثره بالنسبة للديون السابقة، وفي أي حد يعتبر الانخفاض ملحقًا بالكساد. إعداد الدكتور مصطفى أحمد الزرقا.
3. التضخم والكساد في ميزان الفقه الإسلامي. إعداد الدكتور علي أحمد السالوس.
4. حكم ربط الحقوق والالتزامات بمستوى الأسعار. إعداد الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع.
5. مفهوم كساد النقود الورقية، وأثره في تعيين الحقوق والالتزامات الآجلة، حدود التضخم التي يمكن أن تعتبر معه النقود الورقية نقودًا كاسدة. إعداد الدكتور ناجي بن محمد شفيق عجم.
6. كساد النقود الورقية وانقطاعها، وغلاؤها ورخصها، وأثر ذلك في تعيين الحقوق والالتزامات. إعداد الدكتور محمد علي القري بن عيد.
7. كساد النقود وانقطاعها بين الفقه والاقتصاد. إعداد الدكتور منذر قحف.
وقد جنحت أكثر هذه الأبحاث إلى اعتبار قيمة العملة في قضاء الحقوق المؤجلة، إذا حدث غبن فاحش، أو انهيار للعملة، يتحقق به ضرر معتبر على الدائن، أو صاحب الحق، وذلك بإقامة العدل عند التنازع بين الدائن والمدين في مثل هذه الحالات الاستثنائية، وذلك بالاجتهاد في وضع معيار يعرف به حصول التغير الفاحش، أو انهيار العملة .. وميزان عادل للتقويم عند حصول ذلك، قال الدكتور علي القره داغي في بحثه: الذي نراه راجحًا هو أن الأصل في النقود الورقية أيضًا أنها مثلية، ولا نخرجها عن المثلية إلا إذا زالت عنها هذه المثلية من انهيار قيمتها، أو وقع غبن فاحش فيها، وهذا إنما يظهر في الحقوق الآجلة، لا الحقوق العاجلة. اهـ.
وقال أيضًا: الرأي الذي يطمئن إليه القلب هو رعاية القيمة في نقودنا الورقية، في جميع الحقوق الآجلة المتعلقة بالذمة من قرض، أو مهر، أو بيع، أو إجارة، أو غيرها، ما دام قد حصل انهيار، وغبن فاحش، بين قيمة النقد الذي تم عليه الاتفاق، وقدرته الشرائية في الوقتين -أي وقت العقد، ووقت الوفاء- وسواء كان المتضرر دائنًا أو مدينًا، والذي نريده هو تحقيق المبدأ الذي أصله القرآن الكريم، وعبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: "قيمة عدل، لا وكس وشطط". ومن هنا فالنقود الورقية مثلية كقاعدة عامة، فيكون الرد فيها بالمثل دون رعاية فروق طفيفة قد تحدث، ولكنها عند الفرق الشاسع بين حالتي القبض والرد، أو عند الانهيار تفقد مثليتها. اهـ.
وقال في بيان معيار التغير الفاحش أو الانهيار: العلماء قد ثار الخلاف بينهم في تحديد الغبن الفاحش، فبعضهم حدده بما زاد على قيمة الشيء بالثلث، وبعضهم بنصف العشر، وبعضهم بالسدس، وذهب جمهورهم إلى معيار مرن قائم على ما يعده عرف التجار غبنًا، وهذا الأخير هو الذي رجحناه. ونرجحه هنا أيضاً في باب تقويم النقود الورقية، فما يعده التجار في عرفهم غبناً فاحشاً، فهو غبن فاحش هنا أيضًا، وإذا اختلفوا، فالقاضي يحكم بما يرتاح إليه حسب الأدلة، والظروف والملابسات التي تحيط بالقضية بعينها. اهـ.
وأما كيفية التقويم ومعياره، فقال فيه: سبق أن ذكرنا أننا لا نلجأ إلى القيمة، إلا عند انهيارها، أو وجود الغبن الفاحش جدًّا، وفي حالة رجوعنا إلى القيمة، لا بد من أن نضع موازين دقيقة، ومعايير معقولة للتقويم، حتى يتبن لنا الفرق ين قيمتي العملة الورقية في الوقتين: وقت القبض، ووقت إرادة الرد، ولنا لمعرفة ذلك معيارات:
المعيار الأول: الاعتماد على السلع الأساسية مثل: الحنطة، والشعير، واللحم، والأرز، بحيث نقوم المبلغ المطلوب من النقود الورقية عند إنشاء العقد: كم كان يشترى به من هذه السلع الأساسية؟ ثم نأتي عند الرد أو الوفاء، والالتزام إلى القدر الذي يشترى به الآن من هذه السلع، فحينئذ يتضح الفرق. وهذا ما يسمى بسلة السلع والبضائع، وهي معتبرة في كثير من الدول الغربية، يعرفون من خلالها التضخم ونسبته، ويعالجون على ضوئها آثار التضخم، ولا سيما في الرواتب والأجور.
المعيار الثاني: الاعتماد على الذهب، باعتباره في حالة نشأة العقد الموجب للنقود الورقية، وفي حالة القيام بالرد، وأداء هذا الالتزام، بحيث ننظر إلى المبلغ المذكور في العقد كم كان يشترى به من الذهب؟ فعند هبوط سعر النقد الورقي الحاد، أو ارتفاعه الحاد يلاحظ في الرد -وفي جميع الحقوق والالتزامات- قوته الشرائية بالنسبة للذهب، فمثلًا لو كان المبلغ المتفق عليه كان عشرة آلاف ريال، ويشترى به عشرون جرامًا من الذهب، فالواجب عند الرد والوفاء بالالتزام المبلغ الذي يشترى به هذا القدر من الذهب. اهـ.
والذي نراه للسائل أن يتصالح مع ورثة المقترض على مبلغ يتراضيان عليه، وإلا فلا مناص عن رفع الأمر للقاضي الشرعي، للفصل بينهما، قال الدكتور القره داغي في بحثه: إذا حصل توافق وتراض بين الطرفين على القيمة، فبها ونعمت، وإلا فيرجع الأمر إلى القضاء، أو إلى التحكيم، وتنطبق على هذه المسألة حينئذ جميع القواعد العامة في الدعوى، والبينات، والقضاء. اهـ.
والله أعلم.