السؤال
أريد بيع أرض لمسيحي، وأخبرني أنه يريد بناء كنيسة على الأرض. وسمعت في التلفزيون أحد الشيوخ يتكلم عن هذا الموضوع، وأوضح أنه يجوز في مذهب أبي حنيفة، ولا يجوز في المذاهب الثلاثة الأخرى. والمسلم له الحق في أن يتبع ما يريد، وأنا أميل للبيع، طالما أنه يجوز في مذهب أبي حنيفة.
فسؤالي: هل يجوز البيع استنادا إلى مذهب أبي حنيفة وهل أجازها فعلا مذهب أبي حنيفة؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلا يجوز للمسلم بيع أرض، أو تأجيرها لمن يريدها لغرض محرم، فالوسائل لها حكم ما يقصد منها، فالوسيلة إلى فعل المعصية تكون معصية، والوسيلة إلى فعل الطاعة تكون طاعة، ولذلك حرم بيع السلاح وقت الفتنة، وحرم بيع العنب لمن يعصره خمراً، ويقال هنا: يحرم بيع أرض للكافر إذا كان سيتخذها كنيسة؛ لأن ذلك إعانة على معصية، وقد قال تعالى: وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ {المائدة:2}، وسواء شرط ذلك في العقد أو لا، إذا دلت عليه القرائن.
جاء في الموسوعة الفقهية: نصَّ جمهور الفقهاء على أنّه يمنع المسلم من بيع أرضٍ، أو دارٍ لتتّخذ كنيسةً ....." انتهى.
وجاء في المحيط البرهاني من كتب الحنفية: قال شيخ الإسلام رحمه الله: إذا استأجرها الذمي ليسكنها، ثم أراد بعد ذلك أن يتخذ كنيسة، أو بيعة فيها، فأما إذا استأجرها في الابتداء ليتخذها بيعة، أو كنيسة لا يجوز. انتهى.
وشيخ الإسلام عند الحنفية، لقب اشتهر به عند الإطلاق عليّ بن محمد بن إسماعيل بن علي بن أحمد الإسبيجابي السمرقندي، كما في طبقات الحنفية.
وفي بدائع الصنائع من كتب الحنفية أيضا: وَهَذَا إذَا لَمْ يُشْرَطْ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ، فَأَمَّا إذَا شُرِطَ بِأَنْ اسْتَأْجَرَ ذِمِّيٌّ دَارًا مِنْ مُسْلِمٍ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ لِيَتَّخِذَهَا مُصَلًّى لِلْعَامَّةِ، لَمْ تَجُزْ الإِجَارَةُ; لأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ. انتهى.
وما نقل عن أبي حنيفة -رحمه الله تعالى- من جواز ذلك، محمول على أنه في غير أمصار المسلمين وقراهم.
جاء في درر الحكام من كتب الحنفية: نقل عن أبي حنيفة أنه جوز ما ذكر في السواد، لكن قالوا مراده سواد الكوفة؛ لأن غالب أهلها أهل الذمة، وأما في سواد بلادنا، فأعلام الإسلام فيها ظاهرة، فلا يُمكَّنون فيها أيضا، وهو الصحيح. كذا في الكافي. اهـ.
وقال المرغيناني في الهداية، شرح بداية المبتدي: ومن أجر بيتا ليتخذ فيه بيت نار، أو كنيسة، أو بيعة، أو يباع فيه الخمر بالسواد، فلا بأس به. وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: لا ينبغي أن يكريه لشيء من ذلك؛ لأنه إعانة على المعصية. انتهى.
وفي فتاوى السبكي: ولا يريد أبو حنيفة أن قرية فيها مسلمون، فيمكن أهل الذمة من بناء كنيسة فيها. فإن هذه في معنى الأمصار، فتكون محل إجماع. انتهى.
وبناء على ما سبق، فمتى صرح الكافر بقصده المحرم، أو عُلِم بالقرائن أنه يريد الأرض ليتخذها كنيسة في مصر من أمصار المسلمين، لم يجز بيع الأرض له اتفاقا.
ثم إنه ليس للمسلم اتباع الهوى، وتتبع رخص المذاهب، وسقطات أهل العلم، فقد عد بعض أهل العلم- منهم أبو إسحاق المروزي وابن القيم- من يفعل ذلك فاسقاً، وقد خطأ العلماء من يسلك هذا الطريق وهو: تتبع الرخص والسقطات؛ لأن الراجح في نظر المفتي هو ظنه حكم الله تعالى، فتركه والأخذ بغيره لمجرد اليسر والسهولة، استهانة بالدين. وقد قال الشاطبي رحمه الله: لا يتخير؛ لأن في التخير إسقاط التكليف، ومتى خيرنا المقلدين في اتباع مذاهب العلماء، لم يبق لهم مرجع إلا اتباع الشهوات والهوى في الاختيار، ولأن مبنى الشريعة على قول واحد، وهو حكم الله في ذلك الأمر...". اهـ.
والله أعلم.