السؤال
بعض العلماء ينكرون الترادف في القرآن ويقولون: ليس (ريب، وشك، وظن) بمعنى واحد، ولا (يعرضون ، ويصدفون، ويتولَّون) بمعنى واحد. وهلمَّ، وتعال، وأقبل، بمعنى واحد، فكيف نرد عليهم؟.
بعض العلماء ينكرون الترادف في القرآن ويقولون: ليس (ريب، وشك، وظن) بمعنى واحد، ولا (يعرضون ، ويصدفون، ويتولَّون) بمعنى واحد. وهلمَّ، وتعال، وأقبل، بمعنى واحد، فكيف نرد عليهم؟.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فجمهور أهل العلم على إثبات وقوع الترادف في اللغة، خلافا لثعلب وابن فارس، قال التاج السبكي في شرح مختصر ابن الحاجب: حيث أنكرا المترادف، زاعمين أن كل ما يظن مترادفا، فهو من المتباينات بالصفات، كما في الإنسان والبشر، فإن الأول باعتبار النسيان، أو باعتبار أنه يؤنس، والثاني باعتبار أنه بادي البشرة، وسبيل الرد عليهما: صور لا محيص عنها كأسد وسبع في الأعيان، وجلوس وقعود في المعاني، وأوضح من ذلك التمثيل بالبر والحنطة، وإلا فقد يقولان: موضوع السبع أعم من الأسد، وعليه حديث: نهي عن أكل ذي ناب من السباع ـ والجلوس: الاستقرار عن قيام، والقعود: الاستقرار عن اضطجاع، وقيل: عكسه، ويمكن الرد عليهما أيضا بما في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه من حديث العباس بن عبد المطلب ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبطحاء، فمرت سحابة، فقال صلى الله عليه وسلم: أتدرون، ما هذا؟ فقلنا: السحاب، قال: والمزن؟ قلنا: والمزن، قال: والعنان؟... الحديث. انتهى.
وقال الدكتور محمد الجيزاني في رسالته للدكتوراة معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة: الترادف واقع في اللغة: في الأسماء كالأسد والسبع، وفي الأفعال مثل: قعد وجلس، وفي الحروف مثل: إلى وحتى، قال ابن القيم: فالأسماء الدالة على مسمى واحد نوعان:
أحدهما: أن يدل عليه باعتبار الذات فقط ... وهذا كالحنطة والقمح والبر...
والنوع الثاني: أن يدل على ذات واحدة باعتبار تباين صفاتها، كأسماء الرب تعالى، وأسماء كلامه، وأسماء نبيه، وأسماء اليوم الآخر، فهذا النوع مترادف بالنسبة للذات، متباين بالنسبة إلى الصفات ـ روضة المحبين 54 ـ وقد أوضح ابن القيم أن من أنكر الترادف في اللغة فمراده النوعُ الثاني؛ لأنه ما من اسمين لمسمى واحد إلا وبينهما فرق في صفة، أو نسبة، أو إضافة، مع أن الذات واحدة، وقال ابن تيمية: فإن الترادف في اللغة قليل، وأما في ألفاظ القرآن فإما نادر وإما معدوم، وقل أن يعبر عن لفظ واحد بلفظ واحد يؤدي جميع معناه، بل يكون فيه تقريب لمعناه، وهذا من أسباب إعجاز القرآن. مجموع الفتاوى. انتهى.
وقد صحح المرداوي مذهب الجمهور في التحبير شرح التحرير، ونقل كلام ابن القيم بطوله، ثم قال: وهو كلام حسن. انتهى.
وعلى أية حال، فالمسألة فيها بحث طويل وردود ونقاش، وممن منع وجود الترادف أيضا: المبرد والزجاج، قال المرداوي: وصنف في رده كتابا سماه الفروق... قال: وذهب إليه المحققون، ورد: بأن اللغة طافحة بذلك، لكنه على خلاف الأصل، واختار هذا القول أيضا الجويني في الينابيع، وقال: أكثر ما يظن أنه مترادف مختلف، لكن وجه الاختلاف خفي. انتهى.
وقال القرافي في نفائس الأصول في شرح المحصول: قال المنكرون للترادف: القمح والبر والحنطة متباينة، لا مترادفة والقمح اسم صفة من قوله تعالى: إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون {يس: 8} وهذه الحبة يحصل فيها تعب في حرثها وحصادها ودراسها، وغير ذلك، فسميت قمحا لذلك، والبر من البر، لأنها قوام بنية الإنسان والحنطة اسم الذات، والإنسان والبشر متباينان، فالإنسان من النسيان، لقول الشاعر: وسميت إنسانا لأنك ناسي، ويعضده قوله تعالى: ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي {طه: 115} فسميت ذريته بذلك، وقيل: من الأنس، لأنه يتأنس به، ويأنس بعضه ببعض ما لا يأنس غيره من الحيوان بعضه ببعض، وقيل: من النوس الذي هو الحركة، وعلى هذا سمى الجان بالناس، وقد قيل ذلك في قوله تعالى: من الجنة والناس {الناس: 6} هذه ثلاثة أقوال في اشتقاقه، فهو اسم صفة والبشر من البشر، وقول العرب: بشر يبشر بشرا إذا انتشر وسوى، والإنسان قد سويت ظواهر أعضائه، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: خللوا الشعر وأنقوا البشر ـ أي: أنقوا ظواهر أجسادكم، فعلى هذا هو اسم صفة، أو نجعله اسم الذات، والأول اسم صفة. انتهى.
والمثبتون لوقوع الترادف في اللغة، اختلفوا في وقوعه في القرآن، قال الزركشي في البحر المحيط: إذا قلنا بوقوعه في اللغة، فهل وقع في القرآن؟ نقل عن الأستاذ أبي إسحاق المنع... وهذا هو ظاهر كلام المبرد وغيره ممن أبدى لكل معنى والصحيح: الوقوع، لقوله تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة {النحل: 36} وفي موضع أرسلنا، وهو كثير. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: الترادف في اللغة قليل، وأما في ألفاظ القرآن، فإما نادر وإما معدوم، وقل أن يعبر عن لفظ واحد بلفظ واحد يؤدي جميع معناه، بل يكون فيه تقريب لمعناه، وهذا من أسباب إعجاز القرآن، فإذا قال القائل: يوم تمور السماء مورا ـ إن المور هو الحركة، كان تقريبا، إذ المور حركة خفيفة سريعة. انتهى.
وعلى أية حال، فالمسألة فيها قولان لأهل العلم، وتفاصيلها يُرجع إليها في كتب أصول الفقه واللغة، ومن أشهر الكتب في معرفة وجه الفرق بين الألفاظ التي يقال عنها مترادفة، كتاب الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري، فتجد فيه مثلا: التفريق بين الظن والشك، وبين الشك والارتياب، وبين الشك والامتراء، وبين الظن والحسبان، ونحو ذلك.
ومن الكتب التي تفيد في هذا الباب أيضا كتاب الكليات للكفوي، وتجد فيه التفريق بين التولي والإعراض، حيث قال: قال بعضهم: المعرض والمتولي يشتركان في ترك السلوك، إلا أن المعرض أسوأ حالا، لأن المتولي متى ندم سهل عليه الرجوع، والمعرض يحتاج إلى طلب جديد، وغاية الذم الجمع بينهما. انتهى.
ومن هذه الكتب أيضا كتاب بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروزآبادي صاحب القاموس المحيط.
والله أعلم.
يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني