السؤال
قرأت الفتوى رقم: 132452، وبخصوص ذهاب العلماء إلى إباحة النظر إلى الوجوه، وأكف الأجنبيات بغير شهوة، وعند أمن الفتنة قياسًا منهم على أن ما جاز كشفه جاز النظر إليه، فلم أسمع، أو أشاهد عالمًا ثقة أفتى بهذا القول، بل كل من رأيت وسمعت يقول بتحريم النظر للوجه، والكفين مطلقًا، إلا لضرورة شرعية معتبرة، كرؤية المخطوبة، والتداوي، أو الشهادة، أو البيع والشراء أو غيرها من الضرورات بحسب الحاجة، فمن هم العلماء المبيحون لذلك؟ وما ردهم على آية: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم؟ وهل الخلاف سائع في هذه المسألة؟ أم تم الرد على أدلة هذا الفريق المبيح، والخلاف منته؟ وما حكم تقليد قولهم في نطاق أقصاه النظر للوجه عند سماع المحاضرات، أو عند حصول مخاطبة واقعية مباشرة لحاجة؟ وهل في تقليدهم تساهل، واتباع للرخص المذموم، أو وقوع في الإثم؛ لضعف قولهم، وتصادمه مع الآية، أو لضعف حجته؟ وبارك الله فيكم، ورفع قدركم.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقد جاء في الموسوعة الفقهية: إذا كانت المرأة أجنبية حرة، فلا يجوز النظر إليها بشهوة مطلقًا، أو مع خوف الفتنة، بلا خلاف بين الفقهاء، وذهب الحنفية إلى أنه لا يجوز نظر الأجنبي إلى سائر بدن الأجنبية الحرة، إلا الوجه، والكفين؛ لقوله تبارك وتعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ـ إلا أن النظر إلى مواضع الزينة الظاهرة ـ وهي الوجه، والكفان ـ خص فيه بقوله تعالى: ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ـ والمراد من الزينة مواضعها، ومواضع الزينة الظاهرة: الوجه، والكفان، فالكحل زينة الوجه، والخاتم زينة الكف، ولأنها تحتاج إلى البيع والشراء، والأخذ والعطاء، ولا يمكنها ذلك عادة إلا بكشف الوجه، والكفين، فيحل لها الكشف، وهذا قول أبي حنيفة، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يحل النظر إلى القدمين، والمالكية كالحنفية في جواز النظر إلى وجه الأجنبية، وكفيها، أما النظر إلى القدمين: فلا يجوز عندهم، وذهب الشافعية إلى أنه يحرم نظر بالغ عاقل مختار، ولو شيخًا، أو عاجزًا عن الوطء، أو مخنثًا ـ وهو المتشبه بالنساء ـ إلى عورة أجنبية حرة كبيرة، وهي من بلغت حدًّا تشتهى فيه للناظر، بلا خلاف؛ لقوله تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ـ والمراد بالعورة: ما عدا الوجه والكفين، وكذا يحرم عندهم: النظر إلى الوجه والكفين عند خوف فتنة تدعو إلى الاختلاء بها لجماع، أو مقدماته بالإجماع، كما قال إمام الحرمين، وكذا يحرم عند الشافعية النظر إلى الوجه والكفين عند الأمن من الفتنة فيما يظهر له من نفسه من غير شهوة على الصحيح، كذا في المنهاج للنووي، ووجهه إمام الحرمين باتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات الوجوه، وبأن النظر مظنة الفتنة، ومحرك للشهوة، وقد قال تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ـ واللائق بمحاسن الشريعة سد الباب، والإعراض عن تفاصيل الأحوال، كالخلوة بالأجنبية، والوجه الثاني عند الشافعية: أنه لا يحرم، ونسبه إمام الحرمين لجمهور الشافعية، ونسبه الشيخان للأكثرين، وقال الإسنوي في المهمات: إنه الصواب؛ لكون الأكثرين عليه، وقال البلقيني: الترجيح بقوة المدرك، والفتوى على ما في المنهاج، وذهب الحنابلة إلى تحريم نظر الرجل إلى جميع بدن الأجنبية من غير سبب في ظاهر كلام أحمد، وقال القاضي: يحرم عليه النظر إلى ما عدا الوجه والكفين؛ لأنه عورة، ويباح له النظر إليهما مع الكراهة إذا أمن الفتنة، ونظر لغير شهوة. اهـ.
وبهذا يتبين ما في المسألة من الخلاف، ومأخذ من أجاز النظر إلى الوجه والكفين بغير شهوة، ولا خوف فتنة، اعتمادًا على تفسير الزينة الظاهرة بالوجه، والكفين، والذي نرجحه القول الآخر من أنه لا يجوز النظر إلى الأجنبية لغير حاجة، ولو بدون شهوة، إلا ما استثني من النظرة الأولى.
وقال ابن قدامة في المغني: نظر الرجل إلى الأجنبية من غير سبب، محرم إلى جميعها في ظاهر كلام أحمد، قال أحمد: لا يأكل مع مطلقته، هو أجنبي، لا يحل له أن ينظر إليها، كيف يأكل معها ينظر إلى كفها؟ لا يحل له ذلك، وقال القاضي: يحرم عليه النظر إلى ما عدا الوجه، والكفين؛ لأنه عورة، ويباح له النظر إليها مع الكراهة إذا أمن الفتنة، ونظر لغير شهوة، وهذا مذهب الشافعي؛ لقول الله تعالى: ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها {النور: 31} قال ابن عباس: الوجه، والكفين، وروت عائشة: أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثياب رقاق، فأعرض عنها، وقال: يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه، وكفيه ـ رواه أبو بكر، وغيره، ولأنه ليس بعورة، فلم يحرم النظر إليه بغير ريبة، كوجه الرجل، ولنا قول الله تعالى: وإذا سألتموهن متاعًا فاسألوهن من وراء حجاب {الأحزاب: 53} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كان لإحداكن مكاتب، فملك ما يؤدي، فلتحتجب منه ـ وعن أم سلمة، قالت: كنت قاعدة عند النبي صلى الله عليه وسلم أنا، وحفصة فاستأذن ابن أم مكتوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم احتجبن منه ـ رواه أبو داود، وكان الفضل بن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءته الخثعمية تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه، فصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه عنها ـ وعن جرير بن عبد الله، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجاءة، فأمرني أن أصرف بصري ـ حديث صحيح، وعن علي ـ رضي الله عنه ـ قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى، وليست لك الآخرة ـ رواهما أبو داود، وفي إباحة النظر إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها دليل على التحريم عند عدم ذلك، إذ لو كان مباحًا على الإطلاق، فما وجه التخصيص لهذه؟ وأما حديث أسماء -إن صح- فيحتمل أنه كان قبل نزول الحجاب، فنحمله عليه. اهـ.
وأما نوع الخلاف في هذه المسألة: فهو من الخلاف المعتبر، فكل قول قد قال به بعض الأئمة، ولم يخالف نصًّا ولا إجماعًا، وقد سبق لنا مزيد بيان لمأخذ هذا القول وأدلته والقائلين به، فراجع الفتوى رقم: 50794.
وأما حكم تقليد القائل بهذا القول، فهو كحكمه في تقليده في غير هذه المسألة، فإذا كان لغير هوى، ولا ترخص، بل لاعتقاد رجحانه، أو رجحان القائل به، فلا حرج في ذلك، وراجع الفتوى رقم: 260923.
والله أعلم.