السؤال
نريد سيدي الفاضل أن نعرف كيف أن ندمج بين الأصالة والعصرية؟ وشكراً.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن الأصالة مصطلح يعنى به الرجوع إلى الأصول، والتي تعني عند أمة الإسلام الوحي المتمثل في الكتاب والسنة، لأنهما مصدرا التشريع الإسلامي، ويعنى بالمعاصرة مدى صلاحية التشريع لمواكبة مستجدات الأحداث، والتي يعبر عنها بـ"النوازل" بحيث يوجد فيه من الأسس ما يحكم به على هذه النوازل، فمضمون هذا السؤال هو: هل من سبيل إلى التوفيق بين الأصالة والمعاصرة؟
وقبل الجواب عن هذا السؤال نذكر مقدمة مختصرة تمثل مدخلاً لهذا الجواب، وهذه المقدمة هي أن من أبرز خصائص الإسلام الوسطية والتوازن في تشريعاته، وهذا الخاصية قلما تتوفر في أي نظام من النظم الوضعية، ذلك لأنها صادرة عن قصور في العلم والفهم، بخلاف التشريعات الإسلامية فإنها من عند الله الذي خلق ويعلم ما يصلح خلقه، وما يفسدهم، ولا يتسع المجال لبسط الأمثلة على ما ذكرنا، إلا أن ما نحن بصدده يكفي دليلاً على ذلك.
فبالنظر في رسالة الإسلام نجد أنها اشتملت على عنصر الثبات، وعنصر المرونة، وهذا من روائع الإعجاز في هذا الدين، ودليل على صلاحيته لكل زمان ومكان. وبيان ذلك: أن الأهداف والغايات، والأصول والكليات، والقيم الدينية والأخلاق تمثل ثوابت لا تتغير بتغير الزمان والمكان، فالإيمان بالله فضيلة، والشرك بالله قبح ورذيلة، والصدق فضيلة، والكذب قبح ورذيلة، وهذه أمور لا تتغير بتغير العصور.
ومن الجانب الآخر فإن معاملات الناس من بيع وشراء وحكم وسياسة، وغير ذلك مما يهم الناس في أمور حياتهم، تمثل جانياً يطرأ عليها كثير من المستجدات، فجعل لها الشارع ضوابط عامة يحكم بها على هذه المسائل الحادثة، ومن هنا كان الاجتهاد أصلاً من أصول التشريع في الإسلام، قال ابن القيم في كتابه إغاثة اللهفان: الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة كوجوب وتحريم المحرمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه.
النوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زماناً ومكاناً وحالاً كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها، فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة. انتهى
ويظهر أمر مراعاة الثوابت والتغيرات في سيرة الخلفاء الراشدين وفتاوى الأئمة المهديين، فمن مراعاة الثوابت في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه موقفه من مانعي الزكاة وقوله في ذلك: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ومن مراعاة المتغيرات في عهد الصديق رضي الله عنه جمعه للقرآن في مصحف واحد، وقصته في ذلك رواها البخاري في صحيحه.
أما الفاروق عمر رضي الله عنه فقد كثر في عهده النوازل والمستجدات لطول فترة خلافته، واتساع الفتوحات في عهده، فهو الذي توقف عند النص في قصة الفرار من الطاعون في قصة الطاعون بالشام لأنه لا مجال للاجتهاد مع وجود النص، وهذه القصة رواها البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وعمر رضي الله عنه هو الذي صالح نصارى بني تغلب على أن تُضعَّف عليهم الزكاة مرتين، كما روى ذلك ابن أبي شيبة في مصنفه.
وقد وردت كثير من الفتاوى عن أئمة المذاهب الأربعة، وغيرهم من الأئمة، والتي اعتبروا فيها العمل بالمصالح المرسلة، قال الزركشي في كتابه البحر المحيط -وهو في أصول الفقه الشافعي- وهو يتحدث عن أقسام المصالح قال: القسم الثالث: ألَّا يعلم اعتباره ولا إلغاؤه، وهو الذي لا يشهد له أصل معين من أصول الشريعة بالاعتبار، وهو المسمى بـ"المصالح المرسله" وسيأتي الكلام فيه، والمشهور اختصاص المالكية بها وليس كذلك، فإن العلماء في جميع المذاهب يكتفون بمطلق المناسبة، ولا معنى للمصلحة المرسلة إلا ذلك. انتهى.
ثم إن علماء الأمة مازالوا في كل عصر من العصور يجتهدون في النوازل التي تستجد على الناس في أمور الاقتصاد والاجتماع والسياسة والطب، وإن الناظر إلى قرارات مجمع الفقه الإسلامي يجد هذه الجهود واضحة وجلية، ونذكر على سبيل المثال القرارات بشأن التأمين بأنواعه، وتشريح الجثث، ونقل الأعضاء وغيرها من القرارات، ليبقى كل ذلك شاهداً على صلاحية هذا الدين لكل زمان ومكان.
والله أعلم.
يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني