السؤال
قرأت فتوى لبعضهم زكى فيها القانون المصري الجديد، ومجلة الأحوال الشخصية، وأنها موافقة للسنة باعتبار الإشهاد في الطلاق شرطا لوقوعه. فهل يجوز الأخذ بهذه الفتوى؟
*****
القانون المصري الجديد:
ورد في نص المادة 21 من القانون بأنه " لا يعتد في إثبات الطلاق عند الإنكار إلا بالإشهاد والتوثيق "
حسب هذا القانون الجديد فإن الطلاق لا يعتد به إلا بالإشهاد عليه وتوثيقه، وذلك أسوة بالزواج الذي لا يعتد به قانونا إلا بتوثيقه في ورقة رسمية، وذلك تلافيا لمشاكل عديدة منها أن بعض الأزواج ينكرون إيقاع الطلاق على الزوجة لأغراض في أنفسهم- أما بهذا النص الجديد المستحدث في هذا القانون، فإنه إذا أوقع الزوج الطلاق لفظا على زوجته ورفض توثيقه أو الإشهاد عليه، فإن الزوجة لا تعد مطلقة، وهذا الأمر يترتب عليه منع الأزواج من استخدام لفظ الطلاق بسهولة، ولأسباب غير مناسبة كالتهديد بعدم الخروج أو غيره، وبذلك يصبح استخدام لفظ الطلاق في موضوعه الصحيح، ألا وهو الاتفاق النهائي على إنهاء العلاقة الزوجية مما يعيد الاحترام لهذه العلاقة، ويمنع العبث بها لأسباب تافهة.
*****
نفع الله بكم
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأما القانون المصري فلم نطلع على جميع مواده المتعلقة بإثبات الطلاق، ولا على المذكرة التوضيحية له. وأما بالنسبة لنص المادة المذكورة في السؤال: "لا يعتد في إثبات الطلاق عند الإنكار إلا بالإشهاد والتوثيق" فمضمونها صحيح، ومحلها حال الإنكار، أي إنكار الزوج للطلاق وادعاء الزوجة أو غيرها وقوعه، ففي هذه الحال يكون القول قول الزوج، وعلى المدعي إقامة البينة.
قال ابن قدامة في (المغني): إذا ادعت المرأة أن زوجها طلقها فأنكرها، فالقول قوله؛ لأن الأصل بقاء النكاح وعدم الطلاق، إلا أن يكون لها بما ادعته بينة، ولا يقبل فيه إلا عدلان. اهـ.
وأما في حال إقرار الزوج بالطلاق، فلا يشترط لوقوعه الإشهاد، على الصحيح من قول جماهير أهل العلم، بل قد حكي الإجماع على ذلك، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: قال تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله} فأمر بالإشهاد على الرجعة؛ والإشهاد عليها مأمور به باتفاق الأمة، قيل: أمر إيجاب. وقيل: أمر استحباب. وقد ظن بعض الناس أن الإشهاد هو الطلاق، وظن أن الطلاق الذي لا يشهد عليه لا يقع. وهذا خلاف الإجماع، وخلاف الكتاب والسنة، ولم يقل أحد من العلماء المشهورين به؛ فإن الطلاق أذن فيه أولا، ولم يأمر فيه بالإشهاد، وإنما أمر بالإشهاد حين قال: {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف} والمراد هنا بالمفارقة: تخلية سبيلها إذا قضت العدة، وهذا ليس بطلاق ولا برجعة ولا نكاح. والإشهاد في هذا باتفاق المسلمين، فعلم أن الإشهاد إنما هو على الرجعة. ومن حكمة ذلك: أنه قد يطلقها ويرتجعها، فيزين له الشيطان كتمان ذلك حتى يطلقها بعد ذلك طلاقا محرما ولا يدري أحد، فتكون معه حراما، فأمر الله أن يشهد على الرجعة ليظهر أنه قد وقعت به طلقة، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم من وجد اللقطة أن يشهد عليها؛ لئلا يزين الشيطان كتمان اللقطة؛ وهذا بخلاف الطلاق، فإنه إذا طلقها ولم يراجعها بل خلى سبيلها فإنه يظهر للناس أنها ليست امرأته؛ بل هي مطلقة؛ بخلاف ما إذا بقيت زوجة عنده فإنه لا يدري الناس أطلقها أم لم يطلقها. اهـ. وقال الموزعي في (تيسير البيان لأحكام القرآن): قد اتفق الناس على أن الطلاق من غير إشهاد جائز. اهـ. نقله عنه الشوكاني في (نيل الأوطار) والصنعاني في (سبل السلام).
وقال الشوكاني في (السيل الجرار): الإجماع على عدم وجوب الاشهاد في الطلاق. اهـ.
والحقيقة أن بعض أهل العلم ـ على قلة عددهم ـ قد ذهبوا لاشتراط الإشهاد في صحة الطلاق! قال القاسمي في (الاستئناس لتصحيح أنكحة النّاس ص51): ممّن ذهب إِلى وجوب الإِشهاد واشتراطه لصحته من الصحابة: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وعمران بن حصين -رضي الله عنهما- ومن التابعين الإِمام محمد الباقر والإِمام جعفر الصادق .. وكذلك عطاء، وابن جريج، وابن سيرين ... وإِذا تبين لك أن وجوب الإِشهاد على الطلاق هو مذهب هؤلاء الصحابة والتابعين المذكورين، تعلم أن دعوى الإِجماع على ندبه المأثورة في بعض كتب الفقه مراد لها الإِجماع المذهبي لا الإِجماع الأصولي. اهـ.
وقال ابن حزم في (المحلى): وكان من طلق ولم يشهد ذوي عدل، أو راجع ولم يشهد ذوي عدل، متعديا لحدود الله تعالى. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد». اهـ.
وممن اختار هذا القول من المعاصرين الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - في كتابه (نظام الطلاق في الإِسلام) (ص 80).
ورجح الشيخ عمرو سليم في كتابه (الجامع في أحكام الطلاق) (ص 161) استحباب الإشهاد، وناقش من قال بوجوبه، ثم أبطل القول باشتراطه، وقال: القول ببطلان الطلاق والرجعة بترك الإشهاد باطل لا دليل عليه، وعلى تقدير أن الأمر في الآية يقتضي الوجوب، فمخالفته لا تبطل أثر الطلاق ولا المراجعة، والدليل على ذلك: أن الله سبحانه قد أمرنا في الطلاق باستقبال النساء في عدتهن في طهر لم يجامعها فيه زوجها، فلما خالف ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ هذا الأمر وطلق امرأته وهي حائض، أجازه النبي صلى الله عليه وسلم، كما تقدم تقريره، فهو قد خالف الأمر الوارد في آية الطلاق، ولم يمنع هذا من أن يحسب عليه طلقة، فكذلك هو الحال بالنسبة لمن خالف الأمر في الإشهاد. اهـ.
وهذا هو الصواب؛ فإنه على افتراض وجوب الإشهاد، فإن هذا لا يعني اشتراطه بحيث لا يقع الطلاق إلا به! قال أبو الوليد ابن رشد في (المقدمات الممهدات): فإذا قلنا: إنه واجب، فمعنى ذلك أنه يكون بتركه آثما لتضييع الفروج وما يتعلق بذلك، من غير أن يكون ذلك شرطا في صحة الطلاق والرجعة. اهـ.
وقال الطاهر بن عاشور في (التحرير والتنوير) بعد أن تعرض للخلاف في الوجوب أو الاستحباب، قال: واتفق الجميع على أن هذا الإشهاد ليس شرطا في صحة المراجعة أو المفارقة؛ لأنه إنما شرع احتياطا لحقهما، وتجنبا لنوازل الخصومات؛ خوفا من أن يموت فتدعي أنها زوجة لم تطلق، أو أن تموت هي فيدعي هو ذلك، وكأنهم بنوه على أن الأمر لا يقتضي الفور، على أن جعل الشيء شرطا لغيره يحتاج إلى دليل خاص غير دليل الوجوب؛ لأنه قد يتحقق الإثم بتركه ولا يبطل بتركه ما أمر بإيقاعه معه، مثل الصلاة في الأرض المغصوبة، وبالثوب المغصوب. اهـ.
والله أعلم.