السؤال
لماذا نزل جبريل على الرسول؟ كيف تيقن الرسول أنه أحد الملائكة، ولم يلتبس عليه أن يكون غير ذلك؟ وكيف تيقن أن ذلك الكلام كلام الله ولم يلتبس عليه أن يكون كلام أي أحد من خلق الله؟
لماذا نزل جبريل على الرسول؟ كيف تيقن الرسول أنه أحد الملائكة، ولم يلتبس عليه أن يكون غير ذلك؟ وكيف تيقن أن ذلك الكلام كلام الله ولم يلتبس عليه أن يكون كلام أي أحد من خلق الله؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الله تعالى جعل وحيه لأنبيائه نورا وهدى، فلا يمكن أن يلتبس بغيره، خاصة وأن حالهم قبل النبوة كانت مهيئة لاستقبال الوحي، فقد كانوا على التوحيد الخالص، ومعرفة بالله تعالى حتى قبل نزول الوحي؛ قال تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) [الشورى].
قال ابن الجوزي في (زاد المسير): قوله تعالى: (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ) وذلك أنه لم يكن يَعرف القرآن قبل الوحي (وَلَا الْإِيمانُ) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه بمعنى الدعوة إلى الإِيمان، قاله أبو العالية.
والثاني: أن المراد به شرائع الإيمان ومعالمه، وهي كلُّها إيمان، وقد سمَّى الصلاة إيماناً بقوله: (وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ). هذا اختيار ابن قتيبة، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة.
والثالث: أنه ما كان يَعرف الإِيمان حين كان في المهد وإذْ كان طفلاً قبل البلوغ، حكاه الواحدي. والقول ما اختاره ابن قتيبة وابن خزيمة، وقد اشتُهر في الحديث عنه عليه السلام أنه كان قبل النبوَّة يوحِّد الله، ويُبْغِض اللاّتَ والعُزَّى، وَيحُجُّ ويعتمر، ويتَّبع شريعةَ إِبراهيم عليه السلام.
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: من زعم أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان على دين قومه، فهو قول سوءٍ، أليس كان لا يأكل ما ذُبح على النّصب؟ اهـ.
وقال البغوي في تفسيره: أهل الأصول على أن الأنبياء عليهم السلام كانوا مؤمنين قبل الوحي، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعبد الله قبل الوحي على دين إبراهيم، ولم يتبين له شرائع دينه. اهـ.
والمقصود أن حال الأنبياء قبل نزول الوحي كانت تؤهلهم لتلقيه وقبوله، وتمييزه عن غيره من الباطل.
وقد عقد القاضي عياض في كتابه (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) فصلا في حكم عقد قلب النبي صلى الله عليبه وسلم من وقت نبوته، قال فيه: اعلم ـ منحنا الله وإياك توفيقه ـ أن ما تعلق منه بطريق التوحيد، والعلم بالله وصفاته، والإيمان به، وبما أوحي إليه، فعلى غاية المعرفة، ووضوح العلم واليقين، والانتفاء عن الجهل بشيء من ذلك، والشك أو الريب فيه، والعصمة من كل ما يضاد المعرفة بذلك واليقين. هذا ما وقع إجماع المسلمين عليه، ولا يصح بالبراهين الواضحة أن يكون في عقود الأنبياء سواه. اهـ.
ثم أورد ما يشتبه من الأدلة على خلاف ذلك وأوضح وجهه، ومن ذلك ما ورد في حديث مبدإ الوحي من قوله صلى الله عليه وسلم لخديجة رضي الله عنها: «لقد خشيت على نفسي» فقال القاضي: ليس معناه الشك فيما آتاه الله بعد رؤية الملك، ولكن لعله خشي أن لا تحتمل قوته مقاومة الملك، وأعباء الوحي، فينخلع قلبه، أو تزهق نفسه. اهـ.
وقد نحا بعض أهل العلم منحى آخر، مفاده أن اليقين قد حصل للنبي صلى الله عليه وسلم مع تتابع الوحي، ورؤية الآيات والدلائل، لا من أول وهلة !
قال ابن الجوزي في (كشف المشكل من حديث الصحيحين): كان صلى الله عليه وسلم يخاف في بداية الأمر أن يكون ما يراه من قبل الشيطان؛ لأن الباطل قد يلتبس بالحق، وما زال يستقرئ الدلائل ويسأل الآيات إلى أن وضح له الصواب. وكما أن أحدنا يجب عليه أن يسبر صدق المرسل إليه، وينظر في دلائل صدقه من المعجزات، فكذلك الرسل يجب عليها أن تسبر حال المرسل إليها، هل هو ملك أو شيطان؟ فاجتهادها في تمييز الحق من الباطل أعظم من اجتهادنا، ولذلك علت منازل الأنبياء لعظم ما ابتلوا به من ذلك. وكان نبينا صلى الله عليه وسلم في بدايته قد نفر من جبريل، ونسب الحال إلى الأمر المخوف، وقال لخديجة: " قد خشيت على نفسي " إلى أن بان له أن الأمر حق، ثم استظهر بزيادة الأدلة حتى تحقق له اليقين. اهـ.
وقال السهيلي في (الروض الأنف): ذهب أبو بكر الإسماعيلي إلى أن هذه الخشية كانت منه قبل أن يحصل له العلم بأن الذي جاءه ملك من عند الله، وكان أشق شيء عليه أن يقال عنه: مجنون. ولم ير الإسماعيلي أن هذا محال في مبدإ الأمر؛ لأن العلم الضروري قد لا يحصل دفعة واحدة، وضرب مثلا بالبيت من الشعر تسمع أوله، فلا تدري أنظم هو أم نثر، فإذا استمر الإنشاد، علمت قطعا أنه قصد به قصد الشعر، كذلك لما استمر الوحي، واقترنت به القرائن المقتضية للعلم القطعي، حصل العلم القطعي، وقد أثنى الله تعالى عليه بهذا العلم فقال: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون) إلى قوله: (وملائكته وكتبه ورسله) فإيمانه بالله وبملائكته إيمان كسبي موعود عليه بالثواب الجزيل، كما وعد على سائر أفعاله المكتسبة كانت من أفعال القلب، أو أفعال الجوارح. اهـ.
وقال أبو شامة في (شرح الحديث المقتفى في مبعث النبي المصطفى): شاهد صلى الله عليه وسلم أمرا عظيما جسيما من أمر الله تعالى لم يعتده ولم يسمع بمثله، فخاف لما كان ذلك بداءة أمره أن يكون حادثا حدث له من جهة الجن؛ لأن أمر الكهانة كان في العرب مستفيضا حينئذ، حتى كان الرجل منهم يقول: أخبرني رئيي بكذا، ولفلان رئي. اهـ.
ومما يعضد القول الأول المنقول عن القاضي عياض ما ذكره بعض أهل العلم من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان رأى جبريل سابقا في مناماته الصادقة التي كان يراها قبل ابتداء الوحي، وأنه صلى الله عليه وسلم ظهر له من الإرهاصات والآيات ما يفرق به بين لمة الملك وغيره، ذكر ذلك أبو شامة في ( شرح الحديث المقتفى) وابن كثير في (البداية والنهاية) وابن سيد الناس في (عيون الأثر) وابن حجر في (الفتح) والسهيلي في (الروض الأنف) وغيرهم.
والله أعلم.
يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني