السؤال
كذب عائشة - رضي الله عنها - وإيذاؤها لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
يحتج المبتدعة على المسلمين بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار )، وبقوله تعالى: ( إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة ).
في أن عائشة - رضي الله عنها - ملعونة، وفي النار!! لأنها كذبت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكثر من رواية منها: في حديث زيارة البقيع عندما سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك يا عائش، حشياً رابية!؟ فقالت: لا شيء! والرواية الأخرى عندما قالت: أشم منك رائحة المغافير!
وبالنسبة للإيذاء، فلها - رضي الله عنها - أقوال وأفعال ثبتت في بعض الروايات مثل: بل تكلم أنت ولا تقل إلا حقا!
أنت الذي تزعم أنك رسول الله!!
إنما أهجر اسمك!
بالنسبة للكذب، أعلم أن الموعود بالنار هو من ينسب لنبي الإسلام قولا لم يقله صلى الله عليه وسلم.
فكيف نصنف ذلك النوع من الكذب؟ وهل له شواهد من الكتاب والسنة؟
كذلك الإيذاء، هل ما ورد عنها هو داخل في ذلك الوعيد المذكور في الآية الكريمة؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى السلامة والعافية، ونعوذ به عز وجل من الحور بعد الكور، ومن الضلالة بعد الهدى. فلا ندري كيف يطيب لأحد يُنسب لملة الإسلام أن يجادل لإثبات هذا الإفك العظيم، وهذا الضلال المبين. فيلعن أمهات المؤمنين، وزوجات سيد المرسلين، ويحكم لهن بالنار، بدعوى الكذب وإيذاء النبي صلى الله عليه وسلم !!! ثم يستدل على ذلك بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا [الأحزاب: 57]. والحق الذي لا مرية فيه أن قائل ذلك هو الأحق بهذه الآية، والأحق بوصف الكذب، وإيذاء النبي صلى الله عليه وسلم في أهل بيته !! والله تعالى هو الموعد، وإليه المشتكى، وعنده تجتمع الخصوم، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وأما تفصيل جواب ما سأل عنه السائل، فنقول في رد هذه الفرية المنسوبة زورا لأم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- في قصة المغافير، وفي قصة زيارة البقيع وغير ذلك: إن عامة الناس ـ فضلا عن أهل العلم ـ يدركون حقيقة ما يقع من المرأة الغيرى إذا كان لها ضرائر، وقد راعت الشريعة ـ بما فيها من شمول وعدل وإحكام ـ هذا الجانب! وذلك أن أمر الغيرة بين الضرائر لا يمكن إغفال أثره، لمشقة التخلص منه؛ وراجع الفتوى رقم: 13992.
ولإيضاح ذلك نورد ما رواه الإمامان البخاري ومسلم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج أقرع بين نسائه، فطارت القرعة لعائشة، وحفصة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان بالليل سار مع عائشة يتحدث، فقالت حفصة: ألا تركبين الليلة بعيري وأركب بعيرك، تنظرين، وأنظر. فقالت: بلى. فركبت، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى جمل عائشة وعليه حفصة فسلم عليها، ثم سار حتى نزلوا، وافتقدته عائشة، فلما نزلوا جعلت رجليها بين الإذخر وتقول: "يا رب سلط علي عقربا أو حية تلدغني !! ولا أستطيع أن أقول له شيئا". متفق عليه.
قال ابن بطال في شرح البخاري: فيه أن الغيرة للنساء مسموح لهن فيها وغير منكر من أخلاقهن، ولا معاقب عليها ولا على مثلها؛ لصبر النبي عليه السلام لسماع مثل هذا من قولها، ألا ترى قولها له: "أرى ربك يسارع في هواك". ولم يرد ذلك عليها ولا زجرها، وعذرها لما جعل الله في فطرتها من شدة الغيرة. اهـ.
وقال النووي في شرح مسلم: هذا الذي فعلته وقالته حملها عليه فرط الغيرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سبق أن أمر الغيرة معفو عنه. اهـ.
وقال في التعليق على حديث: "إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت علي غضبى ـ إلى قولها ـ يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك" : قال القاضي: مغاضبة عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم هي مما سبق من الغيرة التي عفي عنها للنساء في كثير من الأحكام كما سبق، لعدم انفكاكهن منها، حتى قال مالك وغيره من علماء المدينة: يسقط عنها الحد إذا قذفت زوجها بالفاحشة على جهة الغيرة. قال: واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما تدري الغيراء أعلى الوادي من أسفله". ولولا ذلك لكان على عائشة في ذلك من الحرج ما فيه؛ لأن الغضب على النبي صلى الله عليه وسلم وهجره كبيرة عظيمة. ولهذا قالت: لا أهجر إلا اسمك. فدل على أن قلبها وحبها كما كان، وإنما الغيرة في النساء لفرط المحبة. اهـ.
وقال في تعليقه على قول عائشة في حق خديجة: عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين: قال القاضي: قال المصري وغيره من العلماء: الغيرة مسامح للنساء فيها لا عقوبة عليهن فيها لما جبلن عليه من ذلك. ولهذا لم تُزجر عائشة عنها. قال القاضي: وعندي أن ذلك جرى من عائشة لصغر سنها وأول شبيبتها ولعلها لم تكن بلغت حينئذ. اهـ.
ومن ذلك أيضا قصة القصعة التي كسرتها عائشة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: غارت أمكم. رواه البخاري.
قال ابن حجر في (الفتح): قوله: "غارت أمكم" اعتذار منه صلى الله عليه وسلم لئلا يحمل صنيعها على ما يذم، بل يجري على عادة الضرائر من الغيرة؛ فإنها مركبة في النفس بحيث لا يقدر على دفعها. اهـ.
وقال في موضع آخر: فيه إشارة إلى عدم مؤاخذة الغيراء بما يصدر منها؛ لأنها في تلك الحالة يكون عقلها محجوبا بشدة الغضب الذي أثارته الغيرة. وقد أخرج أبو يعلى بسند لا بأس به عن عائشة مرفوعا: أن الغيراء لا تبصر أسفل الوادي من أعلاه. اهـ.
ومن ذلك أيضا إرسال أمهات المؤمنين إلى فاطمة ابنة النبي صلى الله عليه وسلم وقولهن لها: قولي للنبي صلى الله عليه وسلم: إن نساءك ينشدنك العدل في ابنة أبي قحافة. فدخلت فاطمة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مع عائشة في مرطها، فقالت له: إن نساءك أرسلنني إليك وهن ينشدنك العدل في ابنة أبي قحافة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتحبينني؟ قالت: نعم. قال: فأحبيها. فرجعت إليهن فأخبرتهن ما قال لها.
قال العراقي في (طرح التثريب): قال أبو العباس القرطبي: ليس معناه أنه جار عليهن فمنعهن حقا هو لهن؛ لأنه عليه الصلاة والسلام منزه عن ذلك. لكن صدر ذلك منهن بمقتضى الغيرة، والحرص على أن يكون لهن مثل ما كان لعائشة من إهداء الناس له إذا كان في بيوتهن. ويحتمل أنهن طلبن منه التسوية في محبة القلب؛ ولذلك قال لفاطمة عليها السلام: ألست تحبين من أُحب؟ قالت: بلى. قال: فأحبي هذه. وكلا الأمرين لا يجب العدل بين النساء فيه، أما الهدية فلا تطلب من المهدي، فلا يتعين لها وقت، وأما الحب فغير داخل تحت قدرة الإنسان ولا كسبه. اهـ.
وأما بخصوص حديث المغافير، فقد قال العيني في (عمدة القاري): إن قلت: كيف جاز لعائشة وحفصة الكذب والمواطأة التي فيها إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: كانت عائشة صغيرة، مع أنها وقعت منهما من غير قصد الإيذاء، بل على ما هو من جبلة النساء في الغيرة على الضرائر ونحوها. اهـ.
وقال القسطلاني في (إرشاد الساري): إن قلت: كيف جاز على أزواجه رضي الله عنهن الاحتيال؟ أجيب: بأنه من مقتضيات الطبيعة للنساء في الغيرة، وقد عفي عنهن. اهـ.
وقال في موضع آخر: هذا منها على مقتضى طبيعة النساء في الغيرة، وليس بكبيرة، بل صغيرة معفوّ عنها مكفّرة. اهـ.
وراجع الفتوى رقم: 159263.
هذا كله على التسليم بوقوع الكذب، وإلا فالاحتمال الأقرب أن هذا كان من باب التعريض ونحوه.
قال ابن حجر في (الفتح): قال ابن المنير: إنما ساغ لهن أن يقلن: "أكلت مغافير؟" لأنهن أوردنه على طريق الاستفهام؛ بدليل جوابه بقوله: "لا" وأردن بذلك التعريض لا صريح الكذب، فهذا وجه الاحتيال التي قالت عائشة: "لنحتالن له" ولو كان كذبا محضا لم يسم حيلة إذ لا شبهة لصاحبه. اهـ.
وأما قولها : "أنت الذي تزعم أنك رسول الله " فقد جاءت خلال حديث ضعيف الإسناد (وراجع في ذلك السلسلة الضعيفة للألباني 2985 ، 4967). وقد أعله العراقي في تخريج الإحياء بعنعنة ابن إسحاق. ثم إن صح فإنه يحمل في آخره عذر النبي صلى الله عليه وسلم لها حيث قال: "إن الغيرى لا تبصر أسفل الوادي من أعلاه".
وكذلك قولها: " ولا تقل إلا حقا " جاء في حديث قال عنه العراقي في تخريج الإحياء: أخرجه الطبراني في الأوسط، والخطيب في التاريخ من حديث عائشة بسند ضعيف. اهـ.
ثم إننا نقول لهؤلاء الحاقدين الكذبة: أما يكفيكم شهادة عمار بن ياسر ـ وهو من هو عندنا وعندكم ـ وقد خالف أم المؤمنين عائشة في اجتهادها في الخروج للعراق، فعن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: لما بعث عليٌّ عمارا والحسن إلى الكوفة ليستنفرهم، خطب عمار فقال: إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم لتتبعوه أو إياها. رواه البخاري.
قال ابن حجر في (الفتح): لعله أشار إلى قوله تعالى: (وقرن في بيوتكن) فإنه أمر حقيقي خوطب به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا كانت أم سلمة تقول: لا يحركني ظهر بعير حتى ألقى النبي صلى الله عليه وسلم. والعذر في ذلك عن عائشة أنها كانت متأولة هي وطلحة، والزبير، وكان مرادهم إيقاع الإصلاح بين الناس، وأخذ القصاص من قتلة عثمان رضي الله عنهم أجمعين، وكان رأي علي الاجتماع على الطاعة، وطلب أولياء المقتول القصاص ممن يثبت عليه القتل بشروطه. اهـ.
وعلى أية حال فإننا نؤكد أن الطعن في عائشة إنما هو طعن في سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم؛ وراجع في ذلك الفتوى رقم: 143231.
والله أعلم.