الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ليس كل من كان في نعيم من الدنيا يدخل فيمن عجلت لهم الحسنات

السؤال

أبو حنيفة كان في النعيم, وكذا عبد الرحمن بن عوف, فهل هذا من تعجيل الحسنات؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فليس كل من كان في نعيم من الدنيا يدخل فيمن عجلت لهم الحسنات، وإنما تنقص درجات بعضهم في الآخرة بقدر توسعهم في الدنيا، قال ابن رجب لما تكلم عن انقسام بني آدمَ في الدنيا: والمقتصدُ منهم: أخذَ الدنيا منْ وجوهِهَا المباحةِ، وأدَّى واجباتِهَا، وأمسَكَ لنفسِهِ الزَّائدَ على الواجبِ يتوسَّعُ به في التمتع بشهواتِ الدنيا، وهؤلاءِ قد اختُلفَ في دخولِهِم في اسم الزهادة في الدنيا كما سبق ذكرُهُ، ولا عقابَ عليهم في ذلكَ، إلا أنه ينقصُ من درجاتِهِم من الآخرةِ بقدرِ توسُّعهم في الدنيا, قال ابنُ عمرَ: لا يصيبُ عبدٌ من الدنيا شيئًا إلا نقصَ من درجاتِهِ عندَ اللهِ، وإن كان عليه كريمًا. خرَّجه ابنُ أبي الدنيا بإسنادٍ جيدٍ. انتهى.

وقد روى البخاري في صحيحه أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أُتِيَ بِطَعَامٍ وَكَانَ صَائِمًا، فَقَالَ: قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي، كُفِّنَ فِي بُرْدَةٍ، إِنْ غُطِّيَ رَأْسُهُ بَدَتْ رِجْلاَهُ، وَإِنْ غُطِّيَ رِجْلاَهُ بَدَا رَأْسُهُ - وَأُرَاهُ قَالَ: وَقُتِلَ حَمْزَةُ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي - ثُمَّ بُسِطَ لَنَا مِنَ الدُّنْيَا مَا بُسِطَ - أَوْ قَالَ: أُعْطِينَا مِنَ الدُّنْيَا مَا أُعْطِينَا - وَقَدْ خَشِينَا أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا، ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي حَتَّى تَرَكَ الطَّعَامَ.

قال القاري في مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: خِفْنَا أَنْ نَدْخُلَ فِي زُمْرَةِ مَنْ قِيلِ فِيهِ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 18] اهـ. أَوْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20], كَمَا صَدَرَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ، وَهَذَا لَمَّا كَانَ الْخَوْفُ غَالِبًا عَلَيْهِمْ، وَإِلَّا فَمَعْنَى الْآيَةِ الْأُولَى: مَنْ كَانَتْ هِمَّتُهُ الْعَاجِلَةَ وَلَمْ يُرِدْ غَيْرَهَا تَفَضَّلْنَا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مَا نَشَاءُ, لَا مَا يَشَاءُ, لِمَنْ نُرِيدُ, لَا لِكُلِّ مَنْ يُرِيدُ، وَمَعْنَى الثَّانِيَةِ: أَذْهَبْتُمْ مَا كُتِبَ لَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَيْ: أَذْهَبْتُمُوهُ فِي دُنْيَاكُمْ، فَلَمْ يَبْقَ لَكُمْ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ حَظِّكُمْ شَيْءٌ مِنْهَا، وَالْمُرَادُ بِالْحَظِّ: الِاسْتِمْتَاعُ بِاللَّهْوِ وَالتَّنَعُّمِ الَّذِي يَشْغَلُ الرَّجُلَ الِالْتِذَاذُ بِهِ عَنِ الدِّينِ وَتَكَالِيفِهِ؛ حَتَّى يَعْكُفَ مِنْهُ عَلَى اسْتِيفَاءِ اللَّذَّاتِ، وَلَمْ يَعِشْ إِلَّا لِيَأْكُلَ الطَّيِّبَ، وَيَلْبَسَ اللَّيِّنَ، وَيَقْطَعَ أَوْقَاتَهُ بِاللَّهْوِ وَالطَّرَبِ، وَلَا يَعْبَأُ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَلَا يَحْمِلُ عَلَى النَّفْسِ مَشَاقَّهَا، وَأَمَّا التَّمَتُّعُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ وَأَرْزَاقِهِ الَّتِي لَمْ يَخْلُقْهَا إِلَّا لِعِبَادِهِ، وَيَقْوَى بِهَا عَلَى دِرَاسَةِ الْعِلْمِ وَالْقِيَامِ بِالْعَمَلِ، وَكَانَ نَاهِضًا بِالشُّكْرِ، فَهُوَ عَنْ ذَلِكَ بِمَعْزِلٍ, وفي مراعاة المفاتيح: قال العيني: كان خوفه وبكاؤه وإن كان أحد العشرة المشهود لهم بالجنة مما كان عليه الصحابة من الإشفاق والخوف من التأخر عن اللحاق بالدرجات العلى, وفي غذاء الألباب: وَلَقَدْ كَانَ مَالُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ» فَأَنَّى يُنْقِصُ دَرَجَاتِهِ فِي الْآخِرَةِ. انتهى.

وهكذا هو الظن بأهل العلم والفضل, وللفائدة انظر الفتوى التالية: 61760.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني