السؤال
سمعت قول أحد علماء وأئمة روسيا بعدم صحة رأي الصحابة وعلماء الماضي في مسألة آية 157 من سورة النساء، فقد أدلى هذا الإمام برأيه في مشكلة صلب المسيح، فقال: الصلب ـ كعملية التعليق على الصليب ـ قد حدث لنبي الله عيسى عليه السلام، و لكنه لم يقتل بالصلب بل رفع إلى السماء بعد تبديله على الصليب بشخص آخر وقد كان على مدى قوله نبي الله معلقا على الصليب ثلاث ساعات؟ وقد نفى هذا الإمام تفسير ابن عباس الذي يذكره ابن كثير والنسائي زاعما إياه رأيا خاصا للصحابي ـ رضي الله عنه ـ وسؤالي هو: هل يجوز اتباع هذا الرأي؟ أم هو بدعة مذمومة؟ وما حكم الطعن في صحة أقوال الصحابة في التفسير في هذه المسألة؟ أرجو الرد على جميع هذه الأسئلة المتداخلة لمعرفة موقف أهل السنة منها.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا يجوز بحال اعتقاد أن المسيح ـ عليه السلام ـ صلب، حتى مع الإقرار أنه لم يقتل، فإن الله تبارك وتعالى لم ينف القتل وحده عن المسيح عليه السلام، بل نفى القتل والصلب جميعا، فقال: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ {النساء: 157}.
قال العلامة الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير: وعطف وما صلبوه، لأن الصلب قد يكون دون القتل، فقد كانوا ربما صلبوا الجاني تعذيبا له ثم عفوا عنه. اهـ.
وهنا ننبه على أن عقيدة الصلب عند النصارى هي أصل ديانتهم المحرفة الباطلة، وبطلانها لا يعني مجرد الطعن في اعتقادهم وإنما يعني أن وجودها غير مبرَّر أصلا، قال الشيخ منقذ السقار في كتابه هل افتدانا المسيح على الصليب: أدرك المسلمون الخطر التي تركته حادثة الصلب، والتي تحولت من حدث تاريخي إلى عقيدة عظيمة الشأن عند النصارى، فتقويضها يعني خواء النصرانية عن كل معنى، لذا يؤكد العلامة ديدات أن النصرانية لا تستطيع أن تقدم للناس أي فضيلة، سوى ما تزعمه من الخلاص بدم المسيح، فهي مثلاً لا تستطيع أن تقدم لنا نحن المسلمين الكرم أو النظافة أو .... فإذا ما بطل صلب المسيح لم يبق للنصرانية مبرر للدعوة والوجود. اهـ.
وإثبات مسألة الصلب كان مطلبا مهما لبعض من سعى للجمع أو التقريب بين الإسلام والنصرانية المحرفة، جاء في تفسير المنار: الأقوال المعروفة عند النصارى دفعت بعض الراغبين في التأليف بينهم وبين المسلمين إلى الجمع بين ما جاء في القرآن العزيز، وما يؤخذ من الأناجيل بنوع من التأويل، وهو أن قول القرآن وما قتلوه يقينا يشعر بأنه قد حصل ما هو مظنة القتل، لأنه صورة من صوره ووسيلة من وسائله، وهو ذلك التعليق على الخشبة الذي كان بدون كسر عظم ولا إصابة عضو رئيسي، ولم يطل زمنه فكأنه ليس صلبا، وعندهم أن هذا هو معنى قوله: وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم. اهـ.
والمقصود أنه لا يجوز التهاون في مسألة إثبات الصلب الذي نفاه القرآن نصاً، وأما مسألة تفسير الصحابة، فلا شك أنه العمدة بعد القرآن والسنة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمة أصول التفسير وتبعه ابن كثير في مقدمة تفسيره: إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرآن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام، والعلم الصحيح، والعمل الصالح، لا سيما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، مثل عبد الله بن مسعود .. ومنهم الحبر البحر عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وترجمان القرآن، ببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له حيث قال: اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل... اهـ.
وقال أيضا في مجموع الفتاوى: من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئا في ذلك بل مبتدعا .. ونحن نعلم أن القرآن قرأه الصحابة والتابعون وتابعوهم وأنهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه كما أنهم أعلم بالحق الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن خالف قولهم وفسر القرآن بخلاف تفسيرهم فقد أخطأ في الدليل والمدلول جميعا. اهـ.
وقال الزركشي في البرهان: ينظر في تفسير الصحابي فإن فسره من حيث اللغة فهم أهل اللسان فلا شك في اعتمادهم وإن فسره بما شاهده من الأسباب والقرائن فلا شك فيه، وحينئذ إن تعارضت أقوال جماعة من الصحابة فإن أمكن الجمع فذاك وإن تعذر قدم ابن عباس، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بشره بذلك حيث قال: اللهم علمه التأويل.. اهـ.
وراجع لمزيد الفائدة الفتويين رقم: 166841، ورقم: 8600.
والله أعلم.