الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فنقول ابتداء: ليس كل الأحاديث التي ذكرها النووي ـ رحمه الله ـ في الباب المشار إليه من رواية البخاري ومسلم ـ بل منها حديثان رواهما مسلم ولم يروهما البخاري، أولهما حديث: لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة ـ إلخ.
وحديث: وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ مَا أَجْلَسَكُمْ؟...
فهذان الحديثان رواهما مسلم ولم يروهما البخاري، فقول الشيخ المشار إليه: كلها من رواية البخاري ومسلم ـ غير دقيق, ولا شك أن الاجتماع على ذكر الله تعالى أمر مطلوب مشروع، ولكن لا يصح أن يكون على صفة مبتدعة، ولو كان الاجتماع على أي صفة مشروعا لما أنكر ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ على من اجتمع في المسجد حلقا ويسبحون ويهللون بطريقة لم يعلمها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه, فقد روى الدارمي بسند صحيح: أن ابن مسعود رأى في المسجد قَوْماً حِلَقاً جُلُوساً يَنْتَظِرُونَ الصَّلاَةَ، فِي كُلِّ حَلْقَةٍ رَجُلٌ، وَفِي أَيْدِيهِمْ حَصًى فَيَقُولُ: كَبِّرُوا مِائَةً، فَيُكَبِّرُونَ مِائَةً، فَيَقُولُ: هَلِّلُوا مِائَةً، فَيُهَلِّلُونَ مِائَةً وَيَقُولُ: سَبِّحُوا مِائَةً فَيُسَبِّحُونَ مِائَةً ـ فهولاء مجتمعون على ذكر ـ فأَتَى حَلْقَةً مِنْ تِلْكَ الْحِلَقِ، فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِي أَرَاكُمْ تَصْنَعُونَ؟ قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَصًى نَعُدُّ بِهِ التَّكْبِيرَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّسْبِيحَ، قَالَ: فَعُدُّوا سَيِّئَاتِكُمْ فَأَنَا ضَامِنٌ أَنْ لاَ يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِكُمْ شَيءٌ، وَيْحَكُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ مَا أَسْرَعَ هَلَكَتَكُمْ، هَؤُلاَءِ صَحَابَةُ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم مُتَوَافِرُونَ، وَهَذِهِ ثِيَابُهُ لَمْ تَبْلَ وَآنِيَتُهُ لَمْ تُكْسَرْ، وَالَّذِي نَفْسِي فِي يَدِهِ إِنَّكُمْ لَعَلَى مِلَّةٍ هِي أَهْدَى مِنْ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ، أَوْ مُفْتَتِحِي بَابِ ضَلاَلَةٍ، قَالُوا: وَاللَّهِ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا أَرَدْنَا إِلاَّ الْخَيْرَ. اهــ بتصرف.
فابن مسعود أنكر عليهم مخالفتهم للسنة في الصفة حيث فعلوه جماعة وفي الكيفية حيث كانوا يعدونه بالحصى, قال الشيخ عبد المحسن العباد في شرح سنن أبي داود: فهذا أثر ثابت عن عبد الله بن مسعود، أنكر عليهم هذا الفعل، وهو كونهم يسبحون تسبيحاً جماعياً بالحصى، وكل ذلك خلاف السنة.
وقال أيضا: وإنَّما أنكر عليهم مفارقتهم للسنة في صفة أدائه وكيفيةِ القيام به. اهـ.
وقال الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله: أما كونهم يتحلقون ويجتمعون على هذا الأمر، هذا يسبح كذا، وهذا يقول كذا، أو كل واحد عليه قول معروف، إذا فرغ شرع الآخر، فهذا هو الذي أنكره عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ حين خرج على قوم في مسجد الكوفة وهم متحلقون يقول لهم أحدهم: سبحوا مائة، افعلوا كذا، فيعدون الحصى، فأنكر عليهم. اهــ.
والإمام النووي ـ رحمه الله ـ لما بوب بباب عن فضل حلق الذكر في رياض الصالحين صدره بالآية الكريمة: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ {الكهف:28}.
وابن مسعود من أعلم الناس بهذه الآية، لأنه من الستة الذين نزلت فيهم هذه الآية وأمر الله نبينا صلى الله عليه وسلم أن يصبر نفسه معهم , فهو من أهل الذكر ومع ذلك أنكر على أؤلئك، فدل على أن اجتماعهم ليس داخلا في المأذون فيه من الذكر، كما أنه ـ رضي الله عنه ـ من رواة أحاديث فضل الذكر التي ذكرها الإمام النووي في رياض الصالحين في باب فضل الذكر، فقد روى حديث: الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
ومع ذلك أنكر على أولئك القوم، لأنهم ابتدعوا طريقا للذكر ليست من هدي النبي صلى الله عليه وسلم, والقول بعدم مشروعية مثل تلك الحلق لا يعتبر صدا عن الخير الذي تضافرت به نصوص الكتاب والسنة ـ كما زعم القائل ـ بل هو من النصح للأمة والخير كل الخير في الاتباع لا في الابتداع، وقد قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه: اقْتِصَادٌ فِي سَنَةٍ خَيْرٌ مِنِ اجْتِهَادٍ فِي بِدْعَة. رواه الطبراني.
وأما قيام الليل جماعة في غير رمضان: فلا بأس به إذا لم يتخذ عادة راتبة للأحاديث المشار إليها, وإنما قلنا إذا لم يتخذ عادة راتبة، لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يداوم على قيام الليل جماعة مع أصحابه، وإنما فعله في بعض الأحيان فيفعل في بعض الأحيان تأسيا بهدي سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم, قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله:
مَا لَا تُسَنُّ لَهُ الْجَمَاعَةُ الرَّاتِبَةُ: كَقِيَامِ اللَّيْلِ وَالسُّنَنِ الرَّوَاتِبِ وَصَلَاةِ الضُّحَى وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ـ فَهَذَا إذَا فُعِلَ جَمَاعَةً أَحْيَانًا جَازَ، وَأَمَّا الْجَمَاعَةُ الرَّاتِبَةُ في ذَلِكَ فَغَيْرُ مَشْرُوعَةٍ، بَلْ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَادُونَ الِاجْتِمَاعَ لِلرَّوَاتِبِ عَلَى مَا دُونَ هَذَا، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا تَطَوَّعَ فِي ذَلِكَ فِي جَمَاعَةٍ قَلِيلَةٍ أَحْيَانًا، فَإِنَّهُ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ وَحْدَهُ، لَكِنْ لَمَّا بَاتَ ابْنُ عَبَّاسٍ عِنْدَهُ صَلَّى مَعَهُ، وَلَيْلَةً أُخْرَى صَلَّى مَعَهُ حُذَيْفَةُ، وَلَيْلَةً أُخْرَى صَلَّى مَعَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَكَذَلِكَ صَلَّى عِنْدَ عتبان بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ فِي مَكَانٍ يَتَّخِذُهُ مُصَلًّى صَلَّى مَعَهُ، وَكَذَلِكَ صَلَّى بِأَنَسِ وَأُمِّهِ وَالْيَتِيمِ، وَعَامَّةُ تَطَوُّعَاتِهِ إنَّمَا كَانَ يُصَلِّيهَا مُفْرَدًا. اهــ.
وانظر الفتوى رقم: 136975، عن التواعد لقيام الليل جماعة، والفتوى رقم: 146509، عن الصفة المشروعة لقيام الليل جماعة في غير رمضان.
والقول بأن الحنفية فقط هم من منعوا قيام الليل جماعة غير دقيق أيضا, فالحنفية أولا نصوا على الكراهة, والمنع قد يفهم منه التحريم, ثم إن غير الحنفية أيضا قالوا بكراهة الاجتماع في التطوع، ومنها إحياء الليل في بعض الصور, جاء في الموسوعة الفقهية: كَرِهَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ الاِجْتِمَاعَ لإِحْيَاءِ لَيْلَةٍ مِنَ اللَّيَالِي فِي الْمَسَاجِدِ غَيْرِ التَّرَاوِيحِ، وَيَرَوْنَ أَنَّ مِنَ السُّنَّةِ إِحْيَاءَ النَّاسِ اللَّيْل فُرَادَى، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ ذَلِكَ، وَيَصِحُّ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ إِحْيَاءَ اللَّيْل بِصَلاَةِ قِيَامِ اللَّيْل جَمَاعَةً، كَمَا أَجَازُوا صَلاَتَهُ مُنْفَرِدًا، لأِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَل الأْمْرَيْنِ، وَلَكِنْ كَانَ أَكْثَرُ تَطَوُّعِهِ مُنْفَرِدًا، فَصَلَّى بِحُذَيْفَةَ مَرَّةً وَبِابْنِ عَبَّاسٍ مَرَّةً، وَبِأَنَسٍ وَأُمِّهِ مَرَّةً، وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الاِجْتِمَاعِ عَلَى إِحْيَاءِ اللَّيْل بِقِيَامِهِ بَيْنَ الْجَمَاعَةِ الْكَثِيرَةِ وَالْجَمَاعَةِ الْقَلِيلَةِ، وَبَيْنَ الْمَكَانِ الْمُشْتَهَرِ وَالْمَكَانِ غَيْرِ الْمُشْتَهَرِ، فَأَجَازُوا ـ بِلاَ كَرَاهَةٍ ـ اجْتِمَاعَ الْعَدَدِ الْقَلِيل عَلَيْهِ إِنْ كَانَ اجْتِمَاعُهُمْ فِي مَكَانٍ غَيْرِ مُشْتَهَرٍ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَجْتَمِعُونَ لإِحْيَائِهَا مِنَ اللَّيَالِي الَّتِي صُرِّحَ بِبِدْعَةِ الْجَمْعِ فِيهَا، كَلَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَلَيْلَةِ عَاشُورَاءَ، فَيُكْرَهُ. اهـ.
فأنت ترى أن غير الحنفية قالوا بالكراهة أيضا في بعض الصور.
والله أعلم.