السؤال
قرأت قصيدة لأبي محمد عبد الله بن محمد الأندلسي القحطاني، والشيء الذي حيرني هو أنه ينكر كروية الأرض في قصيدته:
كذب المهندس والمنجم مثله فهما لعلم الله مدعيان الأرض عند كليهما كروية
وهما بهذا القول مقترنان والأرض عند أولي النهى لسطيحة
بدليل صدق واضح القرآن والله صيرها فراشا للورى وبنى السماء بأحسن البنيان
والله أخبر أنها مسطوحة وأبان ذلك أيما تبيان
فأفيدوني؟ وجزاكم الله خيراً.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد أجمع العلماء على أن قطعي الوحي لا يتعارض أبداً مع قطعي العقل وكذلك مع الواقع، ولذا لا يمكن أن يحدث تعارض بين حقيقة علمية وخبر شرعي قطعي، وكروية الأرض ليست فقط حقيقة علمية مقطوعا بها، بل هي محل إجماع نقله بعض أهل العلم، واستدل عليه جمع من محققيهم بنصوص من القرآن والسنة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى): نفى بعض الجهال أن تكون الأفلاك مستديرة، فمنهم من ينفي ذلك جزما، ومنهم من ينفي الجزم به على كل أحد، وكلاهما جهل. فمن أين له نفي ذلك أو نفي العلم به عن جميع الخلق، ولا دليل له على ذلك إلا ما قد يفهمه بفهمه الناقص. هذا وقد ثبت بالكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة أن الأفلاك مستديرة، قال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ. وقال تعالى: لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ. قال ابن عباس: في فلكة مثل فلكة المغزل. وهكذا هو في لسان العرب الفلك الشيء المستدير.. وقال تعالى: يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل. والتكوير هو التدوير.. ومنه قيل للكرة: كرة، وهي الجسم المستدير، ولهذا يقال للأفلاك: كروية الشكل.. ومنه الحديث: إن الشمس والقمر يكوران يوم القيامة.. وقال تعالى: الشمس والقمر بحسبان. مثل حسبان الرحا. وقال: ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت. وهذا إنما يكون فيما يستدير من أشكال الأجسام دون المضلعات من المثلث أو المربع أو غيرهما فإنه يتفاوت لأن زواياه مخالفة لقوائمه، والجسم المستدير متشابه الجوانب والنواحي ليس بعضه مخالفا لبعض. انتهى.
ثم أورد بعض نصوص السنة، وأردف ذلك بأقوال من حكى الإجماع على كروية الأرض، فقال: وأما إجماع العلماء، فقال الإمام أبو الحسين أحمد بن جعفر بن المنادي من أعيان العلماء المشهورين بمعرفة الآثار والتصانيف الكبار في فنون العلوم الدينية من الطبقة الثانية من أصحاب أحمد: لا خلاف بين العلماء أن السماء على مثال الكرة... قال: وكذلك أجمعوا على أن الأرض بجميع حركاتها من البر والبحر مثل الكرة. قال: ويدل عليه أن الشمس والقمر والكواكب لا يوجد طلوعها وغروبها على جميع من في نواحي الأرض في وقت واحد بل على المشرق قبل المغرب. انتهى.
وقال ابن القيم في مفتاح دار السعادة: الطائفة الثانية رأت مقابلة هؤلاء برد كل ما قالوه من حق وباطل، وظنوا أن من ضرورة تصديق الرسل رد ما علمه هؤلاء بالعقل الضروري وعلموا مقدماته بالحس، فنازعوهم فيه وتعرضوا لإبطاله، بمقدمات جدلية لا تغني من الحق شيئا، وليتهم مع هذه الجناية العظيمة لم يضيفوا ذلك إلى الرسل بل زعموا أن الرسل جاءوا بما يقولونه فساء ظن أولئك الملاحدة بالرسل، وظنوا أنهم هم أعلم وأعرف منهم... والذي سلطهم على ذلك جحد هؤلاء لحقهم ومكابرتهم إياهم على ما لا يمكن المكابرة عليه مما هو معلوم لهم بالضرورة، كمكابرتهم إياهم في كون الأفلاك كروية الشكل والأرض كذلك. انتهى.
وقال ابن حزم في الفصل: إن أحداً من أئمة المسلمين المستحقين لاسم الإمامة بالعلم رضي الله عنهم لم ينكروا تكوير الأرض، ولا يحفظ لأحد منهم في دفعه كلمة، بل البراهين من القرآن والسنة قد جاءت بتكويرها... انتهى. وراجع للمزيد من الفائدة الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 26538، 115461، 22383.
وبهذا يعلم السائل أن ما ذكره القحطاني ـ رحمه الله ـ في نونيته المشهورة، من نفي كروية الأرض، أن ذلك من زلاته، وليس من شرط العالم أن لا يخطئ، والكمال عزيز، وقد سبق التنبيه على مثل هذا المعنى في الفتوى رقم: 59419.
والله أعلم.