الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

سَتَرَها ربها فتمادت في العصيان بدلا من أن تتوب

السؤال

ربي يستر علي وأنا مستمرة بعصيانه ما يقارب سنتين أو ثلاث، مما جعلني أتمادى بالطغيان في المعاصي والتمسك بها وعدم تركها. فما هو سبب هذا الستر؟ هل هي محبة الله لي ولأهلي وخوفه علي من الفضيحة أم ماذا ؟؟؟
علما بأني أفعل الخير ببري بوالدتي ومساعدة غيري بما قدرت عليه!!
أرجو الإجابة. هل ربي يحبني أم غاضب علي لاستمراري على ما أفعله من خذلان وعصيان له!!

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فكان حريا بالسائلة -عافاها الله مما هي فيه- أن تقدر هذا الستر من الله عليها فتتوب إليه، لا أن تغتر بالستر فتتمادى في المعاصي، ثم يستدرجها الشيطان ويسول لها أن هذا الستر لمحبة الله لها!

وقد وصف الله أحبابه في كتابه ولم يذكر منهم من يتمادى في المعاصي ويصر عليها، ولا يُعظّم نعمة الستر عليه، وعن عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ:( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) قَالَتْ عَائِشَةُ: أَهُمْ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ. رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني.

فأهل المسارعة في الخيرات هم الذين يحبهم الله و يحبونه، فسارعي أختاه وأنت مستورة مكرمة إلى ترك معصية الله وتوبي إليه، فمهما كان ذنبك فلو أقبلت على الله لقبلك وصرت من أحبابه كما ترتجين، فقد قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ {البقرة:222}.

وقد ندم أقوام أمهلهم الله فاغتروا ولم يتوبوا، وقص الله علينا أخبارهم، فالسعيد من اتعظ بغيره، قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ {الزمر: 53-58}

ولتعلمي أنه ليست العقوبة الوحيدة على المعاصي هي هتك ستر صاحبها، بل هناك عقوبات باطنة أشد من العقوبات الظاهرة، ومن ذلك: قسوة قلب العاصي، وتماديه، وشدة إعراضه، وغفلته حتى عن العقوبة. قال ابن الجوزي: أعظم المعاقبة أن لا يُحِسّ المعاقَب بالعقوبة، وأشد من ذلك أن يقع السرور بما هو عقوبة، كالفَرَحِ بالمال الحرام، والتمكّن من الذنوب، ومن هذه حاله ، لا يفوز بطاعة . اهـ

وقد يكون هذا الستر استدراجا من الله لك، وقد منحك فرصا كثيرة لتتوبي ولم تفعلي، وقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) رواه الإمام أحمد وصححه الألباني.

وقد يستر الله على العاصي ولا يعجل له العقوبة لأمور أخرى، منها:

أن الله عز وجل عفو يحب العفو، وحليم يمهل ولكنه لا يهمل، وقد قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ قَالَ ثُمَّ قَرَأَ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ. رواه البخاري ومسلم.

ومنها: أن الله يحب توبة عباده، فلا يعاجلهم بالعقوبة ليتوبوا، ففي صحيح مسلم عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا.

ومنها: أن الله قد يتكرم ويغفر للعاصي مادام هذا الذنب لم يصل إلى حد الكفر به أو الإشراك، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً {النساء:48}.

ومنها: أن العبد قد تكون له حسنات أخرى تمحو تلك السيئات فلا يعاقبه الله لذلك، كما قال سبحانه: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ {هود:114} . إلى غير ذلك مما قد يستر الله به على العبد.

وعلى كل فالمؤمن الصادق لا يغتر بحلم الله وعفوه، ولا يقنط من رحمته، بل يبقى دائما وجلا من عقاب الله تعالى، راجيا لمغفرته وعفوه مع الأخذ بأسباب ذلك.

ونسأل الله أن يوفقك لطاعته وترك معصيته، لتنالي محبته ورضاه، ولتستري نفسك وأهلك، فمهما بلغت لذة المعصية فإنها لا تقارن بذل الفضيحة.

ولمزيد الفائدة حول معرفة من يحبهم الله راجعي الفتوى التالية: 22830.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني