السؤال
يقول ربنا جل وعلا في سورة المؤمنون (ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون) 105، وفي سورة المطففين (إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين) 15، نلاحظ في الآيتين استخدام صيغة المفرد في الآية الأولى واستخدام الجمع في الآية الثانية، فإن كان الجمع يوحي بالعظمة والهيبة فلم استخدم المفرد، وجاء هذا التنوع في القرآن في عدة مواضع مثل: (قلنا اهبطوا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدىً فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، نلاحظ في بداية الآية: (قلنا) جمع، (منّي) مفرد، (هداي) مفرد وأعتذر على الإطالة؟ ومع احترامي وتقديري؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد قال أبو البقاء العكبري في علل البناء: النون من حروف الزيادة لشبهها بالواو.. وتكون للواحد العظيم لأن الآمر إذا كان مطاعا توبع على الفعل.
فاستخدام ضمير الجمع مكان ضمير المفرد يكون للدلالة على التعظيم والإجلال، والله سبحانه هو المستحق لكمال العظمة والجلال، وقد سبق ذكر هذا المعنى في الفتوى رقم: 36693.
وعليه؛ فإن الألفاظ المضافة لله سبحانه تضاف بضمير الجمع الدال على العظمة، ولذلك جاء لفظ (آياتنا) بضمير الجمع في القرآن (92) مرة، كما في المعجم المفهرس، ومن ذلك قوله تعالى: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ {المطففين:13}، وهذا من باب التعظيم الذي يليق بالله تعالى، والذي يتناسب من جهة أخرى مع سياق سورة المطففين الذي يراد به التهديد والوعيد للفجار والمكذبين، بينما لفظ (آياتي) بضمير المفرد جاء في القرآن (14) مرة فقط، ومن ذلك قوله تعالى: قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ{المؤمنون:66}، وقوله: أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ {المؤمنون:105}، وإنما جاءت بلفظ الإفراد مع استحقاق لله لكمال العظمة؛ لأن سياق الآيات في الموضعين من سورة المؤمنون في معرض التنكيل والمجازاة يوم القيامة، وهذا مقام توحُّد وتفرُّد، كما قال الله تعالى: يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ {غافر:16}، مع أن الملك له قبل ذلك اليوم وبعده، فالدلالة على توحد الله وانفراده بالمجازاة في ذلك اليوم تكون أظهر مع ضمير المفرد، هذا بخلاف قوله تعالى في السورة نفسها: ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ {المؤمنون:45}، بضمير الجمع الدال على التعظيم.
وأما قوله تعالى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ {البقرة:38}، فهو من باب الالتفات البلاغي، وهو التحويل في التعبير من اتجاه إلى آخر من جهات أو طرق الكلام الثلاث: التكلّم والخطاب والغيبة، مع أنّ الظاهر في متابعة الكلام يقتضي الاستمرار على ملازمة التعبير وفق الطريقة المختارة أوّلاً دون التحوّل عنها.
قال أبو حيان الأندلسي في تفسير البحر المحيط: (مني) متعلق بيأتينكم، وهذا شبيه بالالتفات، لأنه انتقل من الضمير الموضوع للجمع، أو المعظم نفسه، إلى الضمير الخاص بالمتكلم المفرد، وقد ذكرنا حكمة ذاك الضمير في: قلنا، عند شرح قوله: {وقلنا يا آدم اسكن} وحكمة هذا الانتقال هنا أن الهدى لا يكون إلا منه وحده تعالى، فناسب الضمير الخاص كونه لا هادي إلا هو تعالى، فأعطى الخاص الذي لا يشاركه فيه غيره الضمير الخاص الذي لا يحتمل غيره تعالى، وفي قوله: مني، إشارة إلى أن الخير كله منه، ولذلك جاء: قد جاءكم برهان من ربكم. وقد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء. فأتى بكلمة: من، الدالة على الابتداء في الأشياء، لينبه على أن ذلك صادر منه ومبتدأ من جهته تعالى. انتهى.
وقال قبل ذلك في قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ {البقرة:34}، في قوله: {قُلْنَا} التفات، وهو من أنواع البديع، إذ كان ما قبل هذه الآية قد أخبر عن الله بصورة الغائب، ثم انتقل إلى ضمير المتكلم، وأتى بـ {نا} التي تدل على التعظيم وعلوّ القدرة وتنزيله منزلة الجمع، لتعدد صفاته الحميدة ومواهبه الجزيلة.
وحكمة هذا الالتفات وكونه بنون المعظم نفسه أنه صدر منه الأمر للملائكة بالسجود، ووجب عليهم الامتثال، فناسب أن يكون الأمر في غاية من التعظيم، لأنه متى كان كذلك كان أدعى لامتثال المأمور فعل ما أمر به من غير بطء ولا تأول لشغل خاطره بورود ما صدر من المعظم، وقد جاء في القرآن نظائر لهذا، منها: (وقلنا يا آدم اسكن)، (وقلنا اهبطوا)، (قلنا يا نار كوني برداً)، (وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض)، (وقلنا لهم ادخلوا الباب)، (وقلنا لهم لا تعدوا)، فأنت ترى هذا الأمر وهذا النهي كيف تقدّمهما الفعل المسند إلى المتكلم المعظم نفسه، لأن الآمر اقتضى الاستعلاء على المأمور، فظهر للمأمور بصفة العظمة، ولا أعظم من الله تعالى. انتهى.
ومما له تعلق بهذا الموضوع ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما لفظ "القرب" فقد ذكره تارة بصيغة المفرد وتارة بصيغة الجمع؛ فالأول إنما جاء في إجابة الداعي: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع. وكذلك في الحديث: اربعوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعا قريبا، إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته. وجاء بصيغة الجمع في قوله: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد. وهذا مثل قوله: (نتلوا عليك)، (نحن نقص عليك)، (فإذا قرأناه)، و(إن علينا جمعه وقرآنه)، و(علينا بيانه)، فالقرآن هنا حين يسمعه من جبريل والبيان هنا بيانه لمن يبلغه القرآن، ومذهب سلف الأمة وأئمتها وخلفها: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع القرآن من جبريل، وجبريل سمعه من الله عز وجل، وأما قوله: (نتلوا)، و(نقص)، (فإذا قرأناه)، فهذه الصيغة في كلام العرب للواحد العظيم الذي له أعوان يطيعونه، فإذا فعل أعوانه فعلا بأمره قال: نحن فعلنا: كما يقول الملك: نحن فتحنا هذا البلد وهزمنا هذا الجيش ونحو ذلك؛ لأنه إنما يفعل بأعوانه والله تعالى رب الملائكة وهم لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وهو مع هذا خالقهم وخالق أفعالهم وقدرتهم وهو غني عنهم؛ وليس هو كالملك الذي يفعل أعوانه بقدرة وحركة يستغنون بها عنه فكان قوله لما فعله بملائكته: نحن فعلنا أحق وأولى من قول بعض الملوك. انتهى.
والله أعلم.