الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تحبير التيسير في القراءات العشر

تحبير التيسير في القراءات العشر

تحبير التيسير في القراءات العشر

يعدُّ كتاب "التيسير في القراءات السبع" لأبي عمرو الداني (ت444هـ) من أقدم كتب القراءات وأهمها، ومن أصول القراءات، كثير النفع، اعتنى به علماء القراءات حفظاً ودراية. ويكفي كتاب "التيسير" قدراً، أنه نال الاهتمام الكبير من عناية أهل القرآن، حفظاً ونظماً وشرحاً، ولم يحظ بهذا القدر الكثير من كتب القراءات. وقد جعله الحافظ ابن الجزري (ت833هـ) الأصل الأول لموسوعته "النشر في القراءات العشر"، فهو بحقّ بمثابة الجوهرة بين كتب الفن؛ لأصالته واختصاره ويُسره. وغير خافٍ أن الشاطبي (ت590هـ) لم ينظمه إلا لاشتهاره في فنه، ولأصالته في بابه، وما زالت الأجيال تتداوله جيلاً بعد جيل؛ فهو المرجع الأساس لمن رامَ درْس القراءات السبع المتواترة.

ولقد أفاد الحافظ ابن الجزري من كتاب "التيسير"؛ حيث زاد عليه القراءات الثلاث المتواترة في كتاب له سمّاه "تحبير التيسير في القراءات العشر"، قال حاجي خليفة في "كشف الظنون": "ثم إن الإمام، شمس الدين، محمد بن محمد بن الجزري، الشافعي، أضاف إليه القراءات الثلاث، في كتاب سمَّاه تحبير التيسير" ، أوله: "الحمد لله، على تحبير التيسير...الخ"، وذكر أنه صنفه بعد ما فرغ من نَظْمِ "طيبة النشر في القراءات العشر"، وقال: "لما كان (التيسير) من أصح كتب القراءات، وكان من أعظم أسباب شهرته، دون باقي المختصرات، نَظَمَ الشاطبي في قصيدته (حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات السبع)".

وقد جاء في مقدمة "التحبير" قول ابن الجزري: "لما كان كتاب (التيسير) للإمام العلامة الحافظ الكبير المتقن المحقق أبي عمرو الداني رحمه الله تعالى من أصح كتب القراءات، وأوضح ما أُلف عن السبعة من الروايات، وكان من أعظم أسباب شهرته دون باقي المختصرات نَظْم الإمام ولي الله تعالى أبي القاسم الشاطبي رحمه الله في قصيدته التي لم يسبق إلى مثلها، ولم ينسج في الدهر على شكلها، وإني لما رأيت الجهل قد غلب على كثير من العوام، وشاع عند من لا علم له من الغوغاء الطغام، أنه لا قراءات إلا الذي في هذين الكتابين، وأن السبعة الأحرف المشار إليها بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: (أنزل القرآن على سبعة أحرف) هي قراءات هذه السبعة القراء، وأن ما عدا ما في هذين الكتابين من القراءات شاذ لا يُقرأ به، أو لا يصح قرآناً، وكل قول من هذه الأقوال ونحوها باطل لا يُلتفت إليه، وخَلْفٌ لا يعول عند علماء الإسلام عليه، كما بينه غير واحد من الأئمة، وأوضحه المقتدى بهم من سراة هذه الأمة؛ إذ كان الضابط الصحيح للقراءات، والحد الجامع لما يُقرأ به من الروايات، كل ما وافق أحد المصاحف العثمانية ولو تقديراً، ووافق العربية ولو بوجه، وصح إسناداً، سواء كان عن هؤلاء السبعة أم العشرة أم غيرهم. ومتى اختل ركن من هذه الثلاثة في حرف حُكِمَ عليه بالشذوذ".

ومما جاء في مقدمته أيضاً قوله: "وإني لما نظمت (طيبة النشر) نظماً رجوت به أن تكون ذخري عند الله في الحشر، واختص بها قوم عن حفاظ حرز الأماني، وتقدموا عليهم بما حوت من جمع الطرق واختصار اللفظ وكثرة المعاني، رأيت أن أتحف حفاظ (الشاطبية) بتعريف قراءات العشرة، وأجعلها في متن (الحرز) منظومة مختصرة، فجاءت في أسلوب من اللطف عجيب، ونوع من الإعجاز والإيجاز غريب، ولا شك أن ذلك ببركة قصيد الشاطبي رحمه الله ورضي عنه، وسر ولايته الذي وصلنا منه، ولما تُلِقِّيَتْ بالقبول، وحصل بها لأهلها من النفع غاية المأمول، رأيت أن أفعل ذلك في كتاب التيسير، وأضيف إلى (سبعته) الثلاثة في أحسن منوال، يكون له كـ (التحبير) مع ما أضيف إليه من تصحيح وتهذيب وتوضيح وتقريب، من غير أن أغير لفظ الكتاب، أو أعدل به إلى غيره من خطأ أو صواب، وحيث كانت الزيادة عليه يسيرة، ألحقتها بالحمرة فيه، وإن كانت كثيرة قدمت عليها لفظ (قلت) وختمتها بقولي: (والله الموفق)".

القيمة العلمية للكتاب

يعدُّ كتاب "التيسير في القراءات السبع" للداني واحداً من أبرز المؤلفات وأشهرها في علم القراءات، فقد أُلِّف في مرحلة زمنية تميزت فيها حدود القراءات الصحيحة من الشاذة؛ وكانت مؤلفات الداني ومعاصريه من علماء القرن الخامس الهجري حدًّا فاصلاً في التفرقة بين القراءات الصحيحة والشاذة، ولا سيما مؤلفات الداني، بما لقيته من شهرة وإقبال دراسي عليها، وبما حظيت به "الشاطبية" من شرح ودرس. ومن هنا يتبين أن كتاب "تحبير التيسير" على قدر كبير من الأهمية، فهو من المصادر الرئيسة في علم القراءات، وعمدة المشتغلين بها.

منهج ابن الجزري في الكتاب

يعد كتاب "التحبير" جهداً مكمِّلاً لما جاء في كتاب "التيسير" فهو غير مستقل بنفسه، ولا قائم بذاته، فلا غرو أن يكون منهج المؤلف فيه تابعاً لمنهج الداني في "التيسير" فهو يبدأ بذكر عبارة التيسير في ما يتعلق بالكلمة التي فيها عدة أوجه، فعندما يصف الداني قراءة في الكلمة، ويذكر من قرأ بها من السبعة، نجد ابن الجزري يُدرج من وافقهم من الثلاثة، ثم يتبع بذكر عبارة الداني في وصف القراءة الأخرى، ومن قرأ بها ليدرج معهم من وافقهم أيضاً من الثلاثة. فإذا استقل أحدُ الثلاثة بقراءة -والعادة أن يستقل أبو جعفر، أو يعقوب، أو كلاهما، أما خَلَفٌ فلم يستقل بقراءة البتة- ذكرها بعبارة يبدؤها بكلمة (قلت) ويختمها بكلمة (فاعلم، والله الموفق) أو (وبالله التوفيق).

وابن الجزري حريص على إيراد القراءة في موضعها بحسب الترتيب القرآني لذلك؛ فإنه يبدأ بعض السور بكلمة (قلت) منبهاً على أنه سيذكر قراءة لمن بعد السبعة، كما هو الحال في افتتاح سورة البقرة، حيث قال: "قلت: قرأ أبو جعفر {ألم} وسائر حروف التهجي من أوائل السور بسكتة يسيرة، يفصل بعضها من بعض، وسواء كانت على حرف واحد أو أكثر من ذلك. والباقون لا يسكتون في ذلك، ولا يفصلون، والله الموفق".

ثم بدأ بذكر عبارة "التيسير" بقوله: "وقال أبو عمرو -الداني-: "قرأ الحرميَّان وأبو عمرو -البصري- {وما يخادعون} بالألف مع ضم الياء، وفتح الخاء، وكسر الدال، والباقون بغير ألف مع فتح الياء والدال". فهو قد بدأ بذكر قراءة أبي جعفر في {ألم} ثم أتبع بذكر وجوه الخلاف؛ لأن {ألم} أولُ موضع مُخْتَلَفٌ فيه في سورة البقرة، وليس لأحد من السبعة فيه خلاف؛ لذلك لم يورد الداني الكلام عليه.

ولم يغير ابن الجزري شيئاً من نص "التيسير" اللهم إلا ما ورد في الضمائر حتى تتناسب مع المثنى والجمع؛ فمثلاً جاء في "التيسير": "ابن كثير (جبريل) هنا وفي التحريم بفتح الجيم، وكسر الراء من غير همز، وأبو بكر -شُعبة- بفتح الجيم والراء وهمزة مكسورة من غير ياء، وحمزة والكسائي مثله، إلا أنهما يجعلان ياء بعد الهمزة، والباقون بكسر الجيم والراء من غير همز". ففي عبارة "التيسير" كان الضمير العائد على حمزة والكسائي بصيغة التثنية، فلما أضاف "التحبير" إليهما خَلَفاً، لزمه أن يعدل الضمير، ليكون بصيغة الجمع.

وقد أورد ابن الجزري في بداية الكتاب ترجمة مختصرة لأبي عمر الداني، مؤلف "التيسير" ثم ذكر اتصال سنده به، وأنه روى كتاب "التيسير" وقرأ القرآن بمضمَّنه على جماعة من علماء مصر والشام، وبأسانيد مختلفة متصلة إلى الداني، كما قام بوصل أسانيده من طريق كثيرة إلى كل راوٍ من رواة القراء العشرة، متابعاً أبا عمرو في ذكر أسانيده إلى رواة القراء السبعة، ومكمِّلاً بذكر أسانيده إلى رواة كل من أبي جعفر ويعقوب وخَلَفٍ العاشر.

هذه أهم ملامح المنهج الذي سلكه ابن الجزري في كتابه "التحبير" الذي لم تبرز شخصيته فيه بشكل واضح، كما هي العادة في كتبه الأخرى، كـ "النشر" و"التمهيد"، وغيرهما، وما ذلك إلا لأن طبيعة الكتاب فرضت عليه أن يكون تابعاً ومُكْمِلاً، لا مستقلاً ولا مبتكراً.

محتويات الكتاب

قدم ابن الجزري للكتاب بمقدمة، اشتملت على سبب تأليفه، ثم عقد باباً، ترجم فيه لأبي عمرو الداني مؤلف كتاب "التيسير"، ثم باباً ذكر فيه اتصال روايته بالداني، ثم بعد ذلك تابع كتاب "التيسير" مكملاً على ما جاء فيه باباً باباً، وفصلاً فصلاً، بادئاً أبواب الكتاب بذكر أصول القراء، ومنتقلاً إلى فرش الحروف، حيث بذكر خلاف القراء العشرة في كل سورة من سور القرآن الكريم، ابتداء من سورة البقرة، وانتهاء بسورة الإخلاص؛ لأن سورتي الفلق والناس ليس فيهما خلاف فَرْش بين القراء، ومنتهياً بباب ذكر التكبير في قراءة ابن كثير، وهو آخر أبواب الكتاب.

وصف الكتاب

كتاب "تحبير التيسير في القراءات العشر" لابن الجزري من الكتب المشهورة في علم القراءات، وهو مطبوع ومتداول، صدرت طبعته الأولى سنة (1392هـ-1972م) بتحقيق الشيخين: عبد الفتاح القاضي، ومحمد الصادق قمحاوي، رحمهما الله تعالى، ونشرته دار الوعي بحلب، بيد أن هذه الطبعة لم تُخدم بشكل علمي صحيح، بل اقتصرت على ضبط النص عن نسخة واحدة من مخطوطاته الكثيرة، وكانت التعليقات في الحاشية موجزة جدًّا، وعند الضرورة فحسب، ولعل الاستعجال بطبع الكتاب كان له أثره في وقوع عدد غير قليل من الأخطاء، منها إسقاط أسماء عدد من الرواة في كثير من الأسانيد، ومنها أخطاء في ضبط أسماء رواة آخرين، وفي ضبط وجوه بعض القراءات، أو عزوها إلى أصحاب القراءات.

ثم قامت دار الكتب العلمية ببيروت بإعادة تصوير الكتاب ونشره دون إجراء أي تعديل أو إضافة، سوى عبارة وُضعت على الغلاف بدلاً من اسمي الشيخين السابقين، هي عبارة: حققه جماعة من العلماء بإشراف الناشر، وتاريخ الطبع (1404هـ-1983م) والناظر في النسختين المطبوعتين لا يجد فرقاً بينهما، بل نسخة دار الكتب العلمية صورة طبق الأصل عن نسخة دار الوعي بما فيها من أخطاء! علماً أنَّ للكتاب عدداً غير قليل من النسخ الخطية، ورد ذكرها في فهارس المخطوطات.

وقد صدرت للكتاب نشرة محققة تحقيقاً علميًّا، قام عليها د. أحمد محمد مفلح القضاة، نشرتها دار الفرقان الأردن/عمَّان، (١٤٢١هـ-٢٠٠٠م) وجاءت عدد صفحاتها (٦٢٣) صفحة. وأصل هذه النشرة رسالة علمية، تقدَّم بها المؤلف لنيل درجة الدكتوراه في التفسير وعلوم القرآن بتقدير ممتاز من جامعة القرآن الكريم والدراسات الإسلامية في السودان، بإشراف الأستاذ أحمد علي الإمام (مدير الجامعة).

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة