الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

والبدن جعلناها لكم من شعائر الله

والبدن جعلناها لكم من شعائر الله

والبدن جعلناها لكم من شعائر الله

من الآيات التي تناولت بعضاً من أعمال شعيرة الحج قوله تعالى: {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير} (الحج:36). تحليل هذه الآية وبيان مراميها يكون من خلال الوقفات الآتية:

الوقفة الأولى: (البُدْن) و(البُدُن) لغتان، واحدتها بَدَنَةٌ. كما يقال: ثَمَرَةٌ وَثُمُرٌ وَثُمْرٌ، وفى التنزيل: {وكان له ثُمُرٌ} وقُرئ: {ثُمْرٌ} لغتان. سميت بدنة؛ لأنها تَبْدُنُ، والبدانة السمن. ويقال: بَدُنَ الرجل (بضم الدال) إذا سمن. وبدَّن (بتشديدها) إذا كبر وأسن. وفي الحديث (إني قد بَدَّنْتُ) أي: كبرت وأسننت. و(البدنة) هي البعير العظيم البَدن. وهو اسم مأخوذ من البَدانة، وهي عِظم الجثّة والسِّمَنِ. وغلب اسم (البدنة) على البعير المعيَّن للهدي. وفي "الموطأ": أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة، فقال: (اركَبْها)، فقال: إنها بدنة، فقال: (اركَبْها)، فقال: إنها بدنة، فقال: (اركبْها ويلك)، في الثانية أو الثالثة) فقول الرجل: إنها بدنة، متعيِّن لإرادة هديه للحج. والاقتصار على (البُدْن) الخاصِ بالإبل، لأنها أفضل في الهدي لكثرة لحمها، وقد ألحقت بها البقر والغنم بدليل السنّة، واسم ذلك هَدي.

الوقفة الثانية: اختلف العلماء في (البُدْن) هل تطلق على غير الإبل من البقر أم لا؟ فقال الشافعي: لا. وقال أبو حنيفة ومالك: نعم. وفائدة الخلاف فيمن نَذَرَ بدنة، فلم يجد البدنة، أو لم يقدر عليها، وقدر على البقرة، فهل تجزئه أم لا؟ فعلى قول الشافعي لا تجزئه. وعلى قول أبي حنيفة ومالك تجزئه. والصحيح ما ذهب إليه الشافعي؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح في يوم الجمعة: (من راح في الساعة الأولى فكأنما قرَّب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرَّب بقرة) فتفريقه عليه الصلاة والسلام بين البقرة والبدنة يدل على أن البقرة لا يقال عليها بدنة. وذكر ابن كثير في "تفسيره" ما يخالف ما تقدم حيث قال: "واختلفوا في صحة إطلاق البدنة على البقرة على قولين: أصحهما أنه يطلق عليها ذلك شرعاً، كما صح في الحديث".

الوقفة الثالثة: قوله {من شعائر الله} أي: من أعلام أمر الله الذي أمركم به في مناسك حجكم، إذا قلدتموها، وجللتموها، وأشعرتموها. والمعنى: أنَّ الله جعلها معالم تُؤْذِنُ بالحج، وجعل لها حرمة. وهذا وجه تسميتهم وضع العلامة التي يُعَلَّم بها بعير الهَدْي في جلده إشعاراً. ففي "الموطأ": ( كان عبد الله بن عمر إذا أهدى هَدْياً من المدينة قلَّده، وأشعره بذي الحُليفة، يقلِّده قبل أن يُشعره، يُقَلِّده بنعلين، ويشعره من الشق الأيسر، بطعنٍ في سنامه) فالإشعار إعداد للنحر. قال ابن عجيبة: "{من شعائر الله} أي: من أعلام دينه، وأضافها إلى نفسه؛ تعظيماً لها".

الوقفة الرابعة: قوله سبحانه: {لكم فيها خير} أي: لكم في هذه الأنعام خير؛ وذلك (الخير) هو الأجر في الآخرة بنحرها والصدقة بها، وفي الدنيا: الركوب إذا احتاج إلى ركوبها، ومن احتاج إلى لبنها شرب. قال ابن كثير: قوله: {لكم فيها خير} أي: ثواب في الدار الآخرة. وروى عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من هراقه دم، وإنه لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله بمكان، قبل أن يقع على الأرض، فَطِيبُوا بها نفساً). رواه ابن ماجه، والترمذي وحسَّنه. (الظِّلْف) للبقر والغنم كالحافر للفرس والبغل، والخف للبعير). وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أُنْفِقَتِ الوَرِقُ في شيء أفضل من نَحِيرَةٍ في يوم عيد". رواه الدار قطني في "سننه". (النحيرة) الدابة المنحورة.

قال القشيري: "أقسام الخير فيها كثيرة؛ بالركوب والحمل عليها، وشرب ألبانها وأكل لحومها والانتفاع بوبرها، ثم الاعتبار بخلقتها كيف سُخِّرت للناس على قوتها وصورتها، ثم كيف تنقاد للصبيان في البروك عند الحمل عليها وركوبها والنزول منها ووضع الحمل عنها، وصبرها على العطش في الأسفار، وعلى قليل العلف، ثم ما في طبعها من لطف الطبع، وحيث تستريح بالحداء مع كثافة صورتها إلى غير ذلك". (كثافة صورتها = ضخامة حجمها).

الوقفة الخامسة: قوله سبحانه: {فاذكروا اسم الله عليها صواف} قراءة جمهور القراء بفتح الفاء وتشديدها {صوافَّ} بمعنى مصطفة، واحدها: صافَّة، وقد صفَّت قوائمها. والإبل تنحر قياماً معقولة (مربوطة). وأصل هذا الوصف في الخيل، يقال: صَفَنَ الفرس فهو صافن، إذا قام على ثلاث قوائم، وثنى سنبك الرابعة، والسنبك طرف الحافر. والبعير إذا أرادوا نحره تربط إحدى يديه، فيقوم على ثلاث قوائم. وفي "صحيح مسلم" أن ابن عمر رضي الله عنهما أتى على رجل، وهو ينحر بدنته باركة، فقال: (ابعثها قائمة مقيَّدة، سُنَّة نبيكم صلى الله عليه وسلم). وفي "سنن" أبي داود (أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى، قائمة على ما بقي من قوائمها). وتُضْجَعُ البقر والغنم.

ولا يجوز النحر قبل الفجر من يوم النحر بإجماع العلماء. وكذلك الأضحية لا تجوز قبل الفجر. فإذا طلع الفجر حلَّ النحر بمنى، وليس عليهم انتظار نحر إمامهم، بخلاف الأضحية في سائر البلاد. والمنحر منى لكل حاج، ومكة لكل معتمر. ولو نحر الحاج بمكة والمعتمر بمنى فلا حرج على واحدٍ منهما.

قال ابن عاشور: "وانتصب {صوافَّ} على الحال من الضمير المجرور في قوله: {عليها} وفائدة هذه الحال ذِكْرُ محاسن من مَشاهد البُدْن؛ فإن إيقاف الناس بُدْنهم للنحر مجتمعة ومنتظمة غير متفرقة مما يزيد هيئتها جلالاً. وقريب منه قوله تعالى: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص} (الصف:4)".

وقال الزمخشري: "منَّ الله على عباده، واستحمد إليهم، بأن سخَّر لهم البُدْن مثل التسخير الذي رأوا وعلموا، يأخذونها منقادة للأخذ طيعة، فيعقلونها ويحبسونها صافَّة قوائمها، ثم يطعنون في لبانها (موضع النحر). ولولا تسخير الله لم تطق، ولم نكن بأعجز من بعض الوحوش التي هي أصغر منها جِرْماً، وأقلُّ قوّة، وكفى بما يتأبَّد -أي يتوحش- من الإبل شاهداً وعبرة".

الوقفة السادسة: قوله عز وجل: {فإذا وجبت جنوبها} أي: إذا سقطت فوقعت جنوبها إلى الأرض بعد النحر، وهو من قولهم: وجبت الشمس: إذا غابت فسقطت للتغيب. ووجب الحائط إذا سقط. فالمراد بـ (الواجب) الواقع. وعن مجاهد: فإذا وجبت جنوبها: سقطت إلى الأرض. والمعنى: إذا سقطت على جنوبها ميتة. فكنَّى عن الموت بالسقوط على الجَنْب، كما كنَّى عن النحر والذبح بقوله تعالى: {فاذكروا اسم الله عليها} قال القرطبي: والكنايات في أكثر المواضع أبلغ من التصريح.

و(الوجوب) للجَنْبِ بعد النحر علامة نزف الدم، وخروج الروح منها، وهو وقت الأكل، أي وقت قرب الأكل؛ لأنها إنما تبتدأ بالسلخ، وقطع شي من لحمها، ثم يطبخ، ولا تُسْلَخُ حتى تبرد؛ لأن ذلك من باب التعذيب، ولهذا قال عمر رضي الله عنه: (لا تعجلوا الأنفس أن تُزْهَق). زَهَقَتْ نفسه: خرجت، ومنه قوله تعالى: {وتزهق أنفسهم وهم كافرون} (التوبة:55).

قال ابن عاشور عند تفسيره لقوله تعالى: {فإذا وجبت جنوبها} قال: "هو كناية عن زوال الروح التي بها الاستقلال. والقصد من هذا التوقيت المبادرة بالانتفاع بها إسراعاً إلى الخير الحاصل من ذلك في الدنيا بإطعام الفقراء، وأكل أصحابها منها؛ فإنه يُستحب أن يكون فطور الحاج يوم النحر مِن هديه، وكذلك الخير الحاصل من ثواب الآخرة".

الوقفة السابعة: قوله عز وجل: {فكلوا منها} الأمر في الآية ليس للإيجاب، بل معناه الإباحة والإطلاق؛ والمراد أن الدابة إذا نُحرت، فسقطت ميتة بعد النحر، فقد حلَّ أكلها. عن مجاهد قال: إن شاء أكل، وإن شاء لم يأكل، هي رخصة، هي كقوله سبحانه: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض} (الجمعة:10) ومثل قوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} (المائدة:2). وعن إبراهيم النخعي، قال: "المشركون كانوا لا يأكلون من ذبائحهم، فرُخص للمسلمين، فأكلوا منها، فمن شاء أكل، ومن شاء لم يأكل".

قال القرطبي عند تفسيره لقوله سبحانه {فكلوا منها}: "أَمْرٌ معناه الندب. وكل العلماء يستحب أن يأكل الإنسان من هديه، وفيه أجر وامتثال؛ إذ كان أهل الجاهلية لا يأكلون من هديهم". وللفقهاء أقوال في الأكل من لحوم الهدايا الواجبة ذكرها ابن عاشور؛ قال مالك: يباح الأكل من لحوم الهدايا الواجبة، وهو عنده مستحبٌّ، ولا يؤكل من فدية الأذى، وجزاءِ الصيد، ونذر المساكين. وقال أبو حنيفة: يأكل من هدي التمتُّع والقِران، ولا يأكل من الواجب الذي عيّنه الحاج عند إحرامه. وقال الشافعي: لا يأكل من لحوم الهدايا بحالٍ؛ لأن المُهدي أوجب إخراج الهدي من ماله، فكيف يأكل منه. وقال أحمد: يؤكل من الهدايا الواجبة، إلا جزاء الصيد والنذر.

الوقفة الثامنة: قوله سبحانه: {وأطعموا القانع والمعتر} اختلف أهل التأويل في المعني بـ {القانع والمعتر} على عدة أقوال ذكرها الطبري، ثم قال: "وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: عني بـ {القانع} السائل؛ يقال: قَنَعَ الرجل يَقْنَعُ قُنُوعاً: إذا سأل، بفتح النون فيهما، وقَنِعَ يقنَع -بكسر الماضي وفتح المستقبل- قناعة، فهو قَنِعٌ، إذا تعفَّف واستغنى ببلغته، ولم يسأل. وأما (المعتر) فهو الذي يطيف بالناس، يطلب ما عندهم، سائلاً كان أو ساكتاً".

وقال ابن عاشور: {القانع} المتصف بالقنوع، وهو التذلل، يقال: قَنَعَ من باب سَأل، قُنوعاً بضم القاف: إذا سأل بتذلّل .وفي "الموطأ" قال مالك: {القانع} هو الفقير. و(المعتَرُّ) اسم فاعل من اعترّ، إذا تعرَّض للعطاء، أي دون سؤال، بل بالتعريض، وهو أن يحضر موضع العطاء، يقال: اعترَّ، إذا تعرَّض. وفي "الموطأ" قال مالك: "وسمعت أنّ المعترّ هو الزائر"، أي: فتكون من (ع ر ا) إذا زار، والمراد زيارة التعرُّض للعطاء .

وهذا التفسير -بحسب ابن عاشور- أحسن، ويرجِّحه أنه عَطَف (المعترّ) على (القانع) فدلَّ العطف على المغايرة، ولو كانا في معنى واحد لما عُطِفَ عليه كما لم يُعْطَف في قوله سبحانه: {وأطعموا البائس الفقير} (الحج:28). وقال ابن عطية: "محرَّر القول من أهل العلم، قالوا: (القانع) السائل، و(المعتر) المتعرِّض من غير سؤال".

و(الأمر) في قوله عز من قائل: {وأطعموا} بحسب الشافعي: للوجوب، قال ابن عاشور: "وهو الأصح". وقال ابن العربي: "وهو صريح قول مالك". وتعقَّبه ابن عاشور بقوله: "المعروف من قول مالك أنه لو اقتصر المُهدي على نحر هديه، ولم يتصدق منه ما كان آثماً".

الوقفة التاسعة: قوله تعالى: {كذلك سخرناها لكم تشكرون} أي: هكذا سخرنا {البُدْن} لكم أيها الناس؛ لتشكروا الله على تسخيرها لكم. قال ابن عاشور: "خلقناها مسخرة لكم؛ استجلاباً لأن تشكروا الله بإفراده بالعبادة. وهذا تعريض بالمشركين، إذ وضعوا الكفر موضع الشكر". وقال الشوكاني: "مثل ذلك التسخير البديع سخرناها لكم، فصارت تنقاد لكم إلى مواضع نحرها فتنحرونها وتنتفعون بها بعد أن كانت مسخرة للحمل عليها والركوب على ظهرها والحلب لها، ونحو ذلك، لعلكم تشكرون هذه النعمة التي أنعم الله بها عليكم".

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة