فالسؤال حاجة شرعية، وضرورة علمية، وإلا وقع الإنسان في دائرة الجهل القاتلة، ففي سنن أبي داود ومسند الإمام أحمد عن جابر قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال: «قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر» أو «يعصب» شك موسى - «على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده».
ومن خلال هذا الموقف الذي حصل يتبين أهمية السؤال عن أحكام الشرع، وخطورة الإقدام على الأمور الشرعية دون علم ولا بصيرة، فعدم السؤال حال الجهل قد يقتل نفسا بريئة، وقد يحل فرجا حراما، وقد يضر بمصالح أمة، كما أن السؤال والاستبصار ينقذ الأفراد والمجتمعات من غوائل الجهل ومهالك الانحراف.
وقد كانوا يرون أن من علامة صلاحية القاضي في منصبه كثرة سؤاله عن العلم، فإن لم يفعل ذلك كان عرضة للخطأ، ففي صحيح البخاري: قال مزاحم بن زفر: قال لنا عمر بن عبد العزيز: " خمس إذا أخطأ القاضي منهن خصلة، كانت فيه وصمة: أن يكون فهِما، حليما، عفيفا، صليبا، عالما، سئولا عن العلم ". وفي الآثار عن سليمان بن يسار، قال: حسن السؤال نصف العلم.
وروى الإمام أحمد في فضائل الصحابة عن مغيرة قال: قيل لابن عباس كيف أصبت هذا العلم؟ قال: «بلسان سؤول، وقلب عقول».
وفي تاريخ دمشق عن الأصمعي قال: قيل لدغفل النسابة: بم أدركت ما أدركت من العلم؟ قال: بلسان سؤول، وقلب عقول، وكنت إذا لقيت عالما أخذت منه وأعطيته.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعجبه كثرة السؤال، والسؤال عما لا ينفع، وربما غضب من ذلك، من أجل أن يوجههم إلى السؤال النافع، ففي صحيح مسلم عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج حين زاغت الشمس، فصلى لهم صلاة الظهر، فلما سلم قام على المنبر، فذكر الساعة، وذكر أن قبلها أمورا عظاما، ثم قال: «من أحب أن يسألني عن شيء فليسألني عنه، فوالله لا تسألونني عن شيء إلا أخبرتكم به، ما دمت في مقامي هذا» قال أنس بن مالك: فأكثر الناس البكاء حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: «سلوني» فقام عبد الله بن حذافة فقال: من أبي؟ يا رسول الله قال: «أبوك حذافة» فلما أكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يقول: «سلوني» برك عمر فقال: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، قال فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عمر ذلك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَوْلَى، والذي نفس محمد بيده لقد عرضت علي الجنة والنار آنفا، في عُرض هذا الحائط، فلم أرَ كاليوم في الخير والشر». قال ابن شهاب: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: قالت أم عبد الله بن حذافة، لعبد الله بن حذافة: ما سمعتُ بابن قط أعق منك؟ أأمنتَ أن تكون أمك قد قارفت بعض ما تقارف نساء أهل الجاهلية، فتفضحها على أعين الناس؟ قال عبد الله بن حذافة: والله لو ألحقني بعبد أسود للحقتُه.
وأخرج الدارقطني من حديث أبي ثعلبة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها».
وأخرج مسلم من حديث أنس قال: " كنا نهينا أن نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء " الحديث. وفي البخاري من حديث ابن عمر: «فكَرِهَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسائل وعابها».
وهذا كله محمول على السؤال عما لا حاجة إليه، أما السؤال عما يحتاج إليه المسلم في دينه فهو فريضة الجاهل، وهذا هو وجه الجمع بين ما سبق من النصوص الآمرة بالسؤال والناهية عنه.
قال الإمام النووي في شرحه على مسلم: "قوله صلى الله عليه وسلم «سلوني» هذا ليس بمخالف للنهي عن سؤاله فإن هذا المأمور به هو فيما يحتاج إليه وهو موافق لقول الله تعالى: فاسألوا أهل الذكر.
المقالات

