الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

توظيف دواعي الطبع للتقويم السلوكي في السنة النبوية

توظيف دواعي الطبع للتقويم السلوكي في السنة النبوية

 توظيف دواعي الطبع للتقويم السلوكي في السنة النبوية

الأساليب النبوية في تقويم النفس البشرية وتكميلها كثيرة ومتنوعة، ومن تلك الأساليب التي قد لا ينتبه لها البعض تحفيز الطباع والنوازع الجبلية وتوظيفها في استصلاح النفس واستقامة سلوكها، فالشرع لم يأت لكبت النفوس ومصادمة غرائزها التي ركبها الله فيها، ولكنه جاء بترشيدها وتكميلها، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقود الإنسان إلى المكارم عن طريق ميوله الطبعية، وغرائزه الجبلية.

أولا: حب الحياة:
من البديهي أن هذا الإنسان مجبول على حب البقاء، والتمسك بالحياة، حتى إن الشيطان يستغل هذا الأمر في تحفيز الإنسان إلى ارتكاب الحرام في سبيل الوصول إلى وهم الخلود والبقاء، وقد لوح بذلك مع لآدم عليه السلام حين قال له: (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى) سورة طه: 120.
ولذلك نجد في السنة النبوية توظيف هذا الأمر في سبيل الخير والفضائل، ففي المسند عن علي ابن أبي طالب، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سره أن يمد له في عمره، ويوسع له في رزقه، ويدفع عنه ميتة السوء، فليتق الله وليصل رحمه». وفي رواية البخاري: «من سره أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره، فليصل رحمه».
فهذا حث على صلة الأرحام من خلال التحفيز والاستثارة لمكامن هذا الإنسان المتعلق بكل سبب يوصله إلى البقاء الأطول، والحياة المديدة، سواء قلنا إن المقصود بالحديث هو طول العمر الحقيقي، أو قلنا إن المقصود هو البركة في العمر، فإن النفس البشرية تميل إلى الاحتمالين، وتستسهل العمل الذي يكون طول البقاء أو بركته ثمرةً له، وتتحفز للقيام به مقابل تحقيق هذا الهدف المطبوع في تركيبتها الخلقية.

ثانيا: حب المال:
لا تشبع النفس البشرية من جمع المال واكتنازه، وفي سبيل ذلك يقع الكثير من الناس في المحرمات المختلفة، ولذلك لا غرابة أن يحفز النبي صلى الله عليه وسلم المسلم إلى بعض الأعمال عن طريق تحقيق هذه الرغبة، وهي الحصول على المال بالسبل المشروعة.
ففي الصحيحين عن أبي قتادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل قتيلا له عليه بينة، فله سلبه». والسَّلَب هو: ما على القتيل ومعه من ثياب وسلاح ومركب.
وفي الحديث السابق أعلاه، «من سره أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره، فليصل رحمه».
لقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أن سلطان حب المال يجعل الإنسان ينقاد إلى العمل بكل حب ورغبة، ولا يمنع ذلك من مقصود العبادة الأعظم، وهو التقرب إلى الله بالعمل، فالرغبة بالحصول على المال لا تكون هذ الباعث الأصلي على العمل، وإنما هي غرض تبعي لا يطعن في النية الأصلية.

ثالثا: حب العافية للنفس والأهل:
يسعى الإنسان بطبعه الجبلِّي إلى دفع الشرور والمهالك عن نفسه وأهله وماله، وقد يبذل في سبيل عافية أهله ماله؛ لكمال الشفقة والرحمة التي جعلها الله في قلب الإنسان بحكمته ورحمته، وقد وظف النبي صلى الله عليه وسلم هذه الجبلة في التحذير من تعمد ترك صلاة العصر.
ففي صحيح مسلم عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «الذي تفوته صلاة العصر، كأنما وتر أهله وماله».
فالإنسان السوي سيستجيب لهذا التحذير النبوي بمحض طبعه الإنساني المركوز في فطرته، حيث يخاف على أهله وولده من لحوق الشر والأذى، ومجرد تخيله لمشهد الفقد الذي رسمه الحديث للأهل الذين هم أحب وأقرب إليه يحفزه ذلك الخيال المخيف إلى الحرص على أداء الصلاة، والحرص على توقيتها، وأن لا تفوته إلا لعذر لا تفريط فيه.

ومثله التحفيز على صلاة الفجر في جماعة للأمن على النفس من الشرور والمعاطب، ففي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء فيدركه فيكبه في نار جهنم» وقد قال الشراح إن الذمة هنا بمعنى: الضمان وقيل هي الأمان.

ومثله ما جاء في توظيف نزوع الإنسان إلى السلامة والعافية من الهلكات ما رواه الطبراني في المعجم الكبير عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صنائع المعروف تقي مصارع السوء» وهي: الآفات والهلكات، فأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، فمن بذل معروفه للناس في الدنيا آتاه الله جزاء معروفة في الآخرة.

ثالثا: الغيرة على الأهل والمال:
مما سبق تبين أن حب المال والأهل جبلة بشرية لا تنفك عن أهل الفطر السوية، ولذلك كان التذكير بذلك كافيا للأسوياء في تحفيزهم على كثير من الفضائل والكمالات، وبناء عليه فقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم غيرة الإنسان على أهله وماله في حثه على الدفاع عن الأهل والمال في وجه من يعتدي عليه ولو أدى ذلك إلى قتله.
ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: «فلا تعطه مالك» قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: «قاتلْه» قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: «فأنت شهيد»، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: «هو في النار».
وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة، قال: قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح عنه، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أتعجبون من غيرة سعد، فوالله لأنا أَغْيَرُ منه، والله أَغْيَرُ مني، من أجل غيرة الله حرم الفواحش، ما ظهر منها، وما بطن، ولا شخص أغير من الله، ولا شخص أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث الله المرسلين، مبشرين ومنذرين، ولا شخص أحب إليه الْمِدْحَةُ من الله، من أجل ذلك وعد الله الجنة».
والإنسان وإن كان سيقاتل في سبيل ماله وعرضه جبلَّةً وطبعاً، لكن السنة النبوية أيدت الوازع الطبعي بالتحفيز الشرعي، وهذا من حسن التوظيف والاستخدام.
ومثله ما رواه الإمام أحمد في المسند عن أبي أمامة، يقول: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم غلام شاب فقال: يا رسول الله ائذن لي في الزنا، فصاح به الناس، وقالوا: مه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ذروه، ادْنُ»، فدنا حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أتحبه لأمك؟» قال: لا، قال: «فكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، أتحبه لابنتك؟» قال: لا قال: «وكذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، أتحبه لأختك؟» قال: لا، قال: «فكذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم، أتحبه لعمتك؟» قال: لا، قال: «فكذلك الناس لا يحبونه لعماتهم، أتحبه لخالتك؟» قال: لا، قال: «وكذلك الناس لا يحبونه لخالاتهم، فاكْرهْ لهم ما تكره لنفسك، وأحب لهم ما تحب لنفسك»، فقال: يا رسول الله ادع الله أن يطهر قلبي، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على صدره فقال: «اللهم أغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه»، قال: فلم يكن بعد ذلك يلتفت إلى شيء.
فقد استنفر فيه النبي صلى الله عليه وسلم مكامن الغيرة الطبعية؛ ليترقى به في الكمال النفسي الرافض لدنو النفس إلى حمأة الرذائل والفواحش.
فهذا الأسلوب النبوي في تقويم السلوكيات، وتحفيز النفوس نحو الكمالات، من خلال التذكير بالطبائع والغرائز السليمة، وقيادة النفوس من خلال ما جبلت عليه، حري بالتأمل والاستفادة منه في مجالات الدعوة والتربية، وترشيد السلوك البشري، وفي السنة أمثلة كثيرة على ذلك.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة