الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أبو داود السجستاني ـ صاحب السنن

أبو داود السجستاني ـ صاحب السنن

 أبو داود السجستاني ـ صاحب السنن

هو: سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو بن عمران الأزدي، أبو داود السجستاني، والسجستاني نسبة إلى البلد سِجِستان، وهي بكسر السين وفتحها، والكسر أشهر، والجيم مكسورة فيهما.
إمام أهل الحديث في زمانه، ومحدث البصرة، وهو صاحب الكتاب المشهور بسنن أبي داود.. ذكر ابن حجر في التهذيب أن جده عمران قُتل في معركة صفين في صف علي بن أبي طالب.

مولده ونشأته
ولد أبو داود في مفتتح القرن الثالث الميلادي سنة 202هـ، في خلافة المأمون، في بلدة من إقليم سجستان، جنوب هراة، وهي منطقة تتنازعها أفغانستان وإيران وباكستان الآن، قال السمعاني: وهي إحدى البلاد المعروفة بكابل.

طلب الحديث أولا في بلاده فطاف خراسان وما حولها، ودخل الري، وهراة، وغيرها من البلدان، وسمع من مشاهير علمائها، ثم بدأ رحلته في الطلب خارج بلده، وهو ابن ثمانية عشر عاما، فزار العراق، ودخل البصرة سنة 220 هـ، ثم دخل الكوفة سنة 221 هـ، وقدم بغداد عدة مرات، وآخر مرة زارها كانت سنة 271هـ، كما زار الجزيرة والشام، وأقام بطرسوس عشرين سنة، كما سمع الحديث بمصر ودمشق وبلاد الشام، وكتب عن علماء هذه البلاد جميعًا، قال الخطيب: "وكتب عن العراقيين والخراسانيين والشاميين والمصريين والجزريين".
ثم انتقل إلى البصرة بطلب من الأمير أبي أحمد الموفق الذي جاء إلى منزله في بغداد، واستأذن عليه ورجاه أن يتخذ البصرة وطنًا؛ ليرحل إليها طلبة العلم من أقطار الأرض، فتعمر بسببه؛ بعد أن خربت وهُجرت وانقطع الناس عنها لما جرى عليها من فتنة الزنج، قال الذهبي: "سكن البصرة بعد هلاك الخبيث طاغية الزنج، فنشر بها العلم، وكان يتردد إلى بغداد".

شيوخه
طوف أبو داود البلاد، وسمع من أكابر مشايخها ومحدثيها، فسمع من إسحاق بن راهوية وطبقته بخراسان، ومن قتيبة بن سعيد ببلخ، وسمع بواسط والبصرة، والكوفة، وحلب، وحران، وحمص ودمشق وسمع فيها هشام بن عمار، وبغداد من أحمد بن حنبل وطبقته، وبمصر، وغيرها، وقد سمع من أبي الوليد الطيالسي، وموسى التبوذكي، وأحمد بن صالح العجلي، وسمع من سعيد بن منصور، والدولابي، وعلي بن الجعد، وعلي بن المديني إمام أهل العلل، وابن عون، وسمع من يحيى بن معين، ومسدد بن مسرهد.
وتتلمذ على أحمد بن حنبل، وتفقه عليه، قال الذهبي: "وهو من نجباء أصحاب الإمام أحمد، لازم مجلسه مدة، وسأله عن دقاق المسائل في الفروع والأصول، وكان على مذهب السلف في اتباع السنة والتسليم لها، وترك الخوض في مضايق الكلام".

تلاميذه
وقد ارتفع شأنه وعلا سهمه، وذاع صيته، وسافر إليه العلماء، وسمع منه الأكابر، فروى عنه الإمام الترمذي في سننه، وكذلك النسائي في السنن وكتاب الكنى، وروى عنه أيضا الإمام أبو بكر الخلال والكرماني، وزكريا الساجي، وأبو بكر بن أبي داود، وابن أبي الدنيا، والرامهرمزي الإمام المعروف، والدولابي واللؤلؤي، وأبو بكر التمار، والإمام الفريابي، وأبو عبيد الآجري، وأبو بكر الصولي، وأبو عوانة الإسفراييني، وأكثر هؤلاء من مشاهير أئمة الإسلام، وروى عنه أيضا خلق سواهم.

فقهه ومذهبه
تأثر أبو داود بإمامه وشيخه الإمام أحمد، وقد لازمه فترة، واستفاد منه، وأكثر النقل عنه، حتى عده أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الفقهاء من جملة أصحاب أحمد بن حنبل، وذكره ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة، قال ابن أبي يعلى: "ونقل عَنْ إمامنا أشياء".، ثم أخذ يسرد ما رواه أبو داود عن ابن حنبل. وقد ألف أبو داود أيضا كتابًا في الفقه على مذهب أحمد بن حنبل، ورتبه حسب أبواب الفقه، وهو كتاب «مسائل الإمام أحمد».

أخلاقه وثناء الناس عليه
جمع أبو داود مع العلم العمل، فكان من العباد الزهاد، في أعلى درجات النسك والعفاف والصلاح والورع، وقد أثنى العلماء عليه، وتحدثوا بفضله، وشهدوا له بقدم الرسوخ في العلم والحفظ والفقه، فمن أقوال العلماء فيه:

قال أبو حاتم بن حبان: "كان أحد أئمة الدنيا فقهًا وعلمًا وحفظًا ونسكًا وورعًا وإتقانًا، جمع وصنف وذبّ عن السنن".
وقال موسى بن هارون: «خلق أبو داود في الدنيا للحديث، وفي الآخرة للجنة، ما رأيت أفضل منه".
وقال ابن الجوزي: «كان عالماً حافظاً عارفاً بعلل الحديث، ذا عفاف وورع وكان يشبه بأحمد بن حنبل".
قال الحاكم النيسابوري: "أبو داود إمام أهل الحديث في عصره بلا مدافعة".
وقال ابن منده: "الذين أخرجوا وميزوا الثابت من المعلول والخطأ من الصواب أربعة: البخاري ومسلم، وبعدهما أبو داود والنسائي".
وقال أبو بكر الخلال: "أبو داود سليمان الأشعث، الإمام المقدّم في زمانه رجلٌ لم يسبقه إلى معرفته بتخريج العلوم، وبصره بمواضعها أحدٌ في زمانه، رجل ورع مقدم".
وقال أحمد بن محمد الهروي: "سليمان بن الأشعث أبو داود السجزي، كان أحد حفاظ الإسلام لحديث رسول الله وعمله وعلله وسنده، في أعلى درجة النسك والعفاف والصلاح والورع، كان من فرسان الحديث".
قال محمد بن مخلد: «كان أبو داود يفي بمذاكرة مائة ألف حديث، وأقرّ له أهل زمانه بالحفظ".

وقد ذكر الإمام الذهبي في السير قصة تدل على مكانة الإمام أبي داود وعلى ورعه وتعظيمه للعلم، قال الذهبي: "قال الخطابي: حدثني عبد الله بن محمد المسكي، حدثني أبو بكر بن جابر خادم أبي داود -رحمه الله- قال: كنت مع أبي داود ببغداد، فصلينا المغرب، فجاءه الأمير أبو أحمد الموفق -يعني ولي العهد- فدخل، ثم أقبل عليه أبو داود، فقال: ما جاء بالأمير في مثل هذا الوقت؟ قال: خلال ثلاث. قال: وما هي؟ قال: تنتقل إلى البصرة فتتخذها وطنا؛ ليرحل إليك طلبة العلم، فتعمر بك، فإنها قد خربت، وانقطع عنها الناس، لما جرى عليها من محنة الزنج. فقال: هذه واحدة. قال: وتروي لأولادي "السنن". قال: نعم، هات الثالثة. قال: وتفرد لهم مجلسا، فإن أولاد الخلفاء لا يقعدون مع العامة. قال: أما هذه فلا سبيل إليها، لأن الناس في العلم سواء. قال ابن جابر: فكانوا يحضرون ويقعدون .. ويضرب بينهم وبين الناس ستر فيسمعون مع العامة.

مؤلفاته
كتابه السنن: ألف أبو داود الكثير من المؤلفات على رأسها "كتاب السنن" المشهور بـ "سنن أبي داود"، وهو أعظم مؤلفاته وأشهرها، وهو أحد الكتب الستة التي عليها مدار كتب السنة عند أهل السنة والجماعة، ألفه وجمعه في أول حياته، وانتهى منه قبل وفاة الإمام أحمد سنة 242، فقد أخبر أنه عرضه عليه فاستحسنه، ورجح العلماء أنه ألفه بطرسوس وأخذ في تأليفه زمانا، فقد روي عنه قوله: "أقمت بِطَرْسُوس عشرين سنة، واجتهدت في المسند فإذا هو أربعة آلاف حديث"، وقال أيضا رحمه الله: "كتبتُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديثٍ، انتخبت منها ما ضمَّنته هذا الكتاب - يعني كتاب "السنن"، جمعت فيه أربعة آلافٍ وثمانمائة حديثٍ؛ ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه".. وقد اعتنى بكتابه هذا كثيرا، فما زال ينظر فيه ويراجعه، وقرأه على طلبة العلم عدة مرات، واستمر يقرؤه على تلاميذه حتى وفاته.

وقد أثنى العلماء على كتابه ثناء عظيما، حتى قال ابن الأعرابي: "لو أن رجلاً لم يكن عنده من العلم إلا المصحف الذي فيه كتاب الله ثم هذا الكتاب - أي سنن أبي داود -، لم يحتج معهما إلى شيء من العلم البتة".
وقال إبراهيم الحربي لما صنف أبو داود كتاب السنن: "أُلين لأبي داود الحديثُ كما ألين لداود الحديد".
قال الإمام الخطابي ـ وهو أحد من شرح كتاب السنن: "اعلموا - رحمكم الله - أن كتاب السنن لأبي داودَ كتابٌ شريفٌ، لم يصنَّف في حُكم الدين كتابٌ مثلُه، وقد رُزق القَبول من الناس كافة، فصار حَكَمًا بين فِرَق العلماء، وطبقات الفقهاء على اختلاف مذاهبهم، وعليه معوَّل أهل العراق ومصر والمغرب، وكثير من أقطار الأرض" .

ولأبي داود مؤلفات أخرى غير كتابه السنن:
كتاب المراسيل، المشهور باسم "مراسيل أبي داود"، وكتاب "مسائل الإمام أحمد"، وهو كتاب في الفقه على مذهب أحمد بن حنبل، ومُرتَّب على أبواب الفقه. وكتاب "الناسخ والمنسوخ"، و"سؤالات أبي عبيد"، وهو كتاب في الجرح والتعديل. وكتاب "الزهد"، وكتاب "البعث أو البعث والنشور"، و"سؤالات أبي داود السجستياني للإمام أحمد"، وهو كتاب في الجرح والتعديل وليس هو كتاب مسائل الإمام أحمد، وله أيضا "كتاب القدر" يرد فيه على القدرية، و"المسائل التي حلف عليها الامام أحمد"، وكتاب "تسمية الإخوة الذين روي عنهم الحديث"، و"دلائل النبوة"، و"التفرد في السنن"، و"أصحاب شعبة"، و"فضائل الأنصار"، و"أخبار الخوارج"، وكتاب "الدعاء".

وفاة أبي داودَ:
توفي أبو داودَ بالبصرة يوم الجمعة، السادس عشر من شوالٍ، سنة خمسٍ وسبعين ومائتين، عن ثلاثٍ وسبعين سنةً، وأوصى أن يغسله الحسن بن المثنى، فإن لم يكن الحسن فلينظروا في كتاب سليمان بن حرب عن حماد بن زيد في الغسل فيعملوا به، ودُفن إلى جانب قبر سفيان الثوري رحمه الله.. ورحم الله الجميع رحمة واسعة.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة