الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ابن مقلة الوزير.. شيخ الخطاطين

ابن مقلة الوزير.. شيخ الخطاطين

 ابن مقلة الوزير.. شيخ الخطاطين

هو محمد بنُ علي بنِ الحسين بن مُقْلَة، أبو عليّ الشيرازي، خطاطٌ بغدادي وعربيٌّ كبير، بل هو واحدٌ من أشهر خطَّاطي العصرِ العباسي، وأول مَن وضع أُسُسًا مكتوبةً للخط العربي، ويقال إنه مخترعُ خطِّ الثُلُثِ ورائد ومؤسس قاعدتي خطَّي الثلث والنسخ.

مولده ونشأته
وُلِد ابنُ مقلة في شوال سنة 272هـ الموافق 886م، ببغداد، وأخذ لقبه من إحدى أمهاته (مقلة)، ونشأ في بيت علم وفن، ووسط أسرة جميع أفرادها يمتهن الخط العربي، فجاء ابن مقلة الأشهرَ من بينهم على الإطلاق، وقد أخذ الخط عن أبيه، وعن إسحاق بن إبراهيم البربري الأحول المحرر. وما بلغ سن السادسة عشرة حتى أتقن فن الخط العربي ونبغ فيه، وفهم أسراره، وبلغ شأنا عظيماً ومرتبة عالية في فنه وحسن تحريره.

بدأ ابن مقلة حياته كاتبًا بسيطًا ينتفع ويتكسب بخطه، وعمل معلماً له في مدرسة "ابن الفرات" أشهر مدارس الخط في ذلك الوقت، ثم تولى خَراج بعض أعمال فارس فتحسنت أحواله، ثم عاد إلى بغداد يخدم في بعض الدواوين في كل شهر بستة دنانير ينسخ ويكتب، إلى أن علق بأبي الحسن بن فرات الذي رفع من قدره وحسن من أحواله، فعرض جاهُه، وفُتِحَت له الدنيا، واشتهر شهرة عظيمة، وانتهت إليه رئاسة الخط العربي في عصره.

براعة وثناء

بلغ ابن مقلة درجةً عالية من الدراية والتعمق في الخط، وما زال يترقى في هذا الفن حتى بلغ في الخط العربي شأنا عظيما، فأبدع في هندسة الحروف العربية، وقدر مقاييسها، وصار ممن يُضرب به المثل في روعة الخط وجماله.
قال عنه ياقوت الحموي: "كان الوزير أوحد الدنيا في كتبه قلم الرقاع والتوقيعات، لا ينازعه في ذلك منازع، ولا يسمو إلى مساماته ذو فضل بارع".
وقال الثعالبي أيضاً: "خط ابن مقلة يُضرب مثلاً في الحسن، لأنه أحسن خطوط الدنيا، وما رأى الراؤون بل ما روى الراوون مثله!”
وقد سئل ابن الزنجي: "ما تقول في خط ابن مقلة؟ قال: ذاك نبيّ فيه، أُفْرِغَ الخطُّ في يده كما أُوحِي إلى النحل في تسديس بيوته".
ونقل الذهبي في سير الأعلام عن الصولي قوله: "ما رأيت وزيرًا منذ توفي القاسم ابن عبيد الله أحسن حركة، ولا أظرف إشارة، ولا أملح خطا، ولا أكثر حفظا، ولا أسلط قلما، ولا أقصد بلاغة، ولا آخذ بقلوب الخلفاء من ابن مقلة، وله علم بالإعراب، وحفظ للغة، وتوقيعات حسان".
وقد اشتهر حتى روي خبرُ كتابته كتابَ هدنةٍ بين المسلمين والروم، وبقي الكتابُ إلى زمن السلطان محمد الفاتح حين فتح القسطنطينية سنة ,1453م.

تولِّيه الوزارة
عمل ابنُ مقلة للخلفاء العباسيين، ومن العجائبِ أنه تولى الوزارة ثلاث مرات، وعُزل ثلاث مرات، حيث تقلد الوزارة في عهد الخليفة العباسي المقتدر بالله سنة 316 للهجرة. ولكنه بعد سنتين صودرت أمواله، ونفي إلى بلاد فارس.
ولما آلت الخلافة إلى القاهر بالله أعاده للوزارة سنة 320 للهجرة ، ولم يزل وزيراً إلى أن اتهم بمعاضدة بعض الخارجين على الخليفة، فبلغ الخبر ابن مقلة فاختفى واستتر، إلى أن آلت الخلافة إلى الراضي بالله 322 هجرية، فاستدعاه واستوزره مرة أخرى، فعاش ابن مقلة في هذه المرحلةَ حياةً مترفةً، واستراحت نفسُه خصصا بعد ما نال ابنه الوزارة.

اسهاماته في الخط العربي
كانت لابن مقلة انجازاتٌٌ فنية مهمةٌ في علم الخط العربي وفنّه، فكان أول من هندَس حروف الخط العربي، ووضع لها القوانين والقواعد، وإليه تُنسب بدايةُ الطريقة البغدادية في الخط، وأول من كتب مصنفاً في الخط العربي ذكر فيه مصطلحات هذا العلم البديع، مثل مصطلحات "حسن التشكيل" وهي: التوفية، والإتمام، والإكمال، والإشباع، والإرسال، ومصطلحات "حسن الوضع" وهي: الترصيف، والتأليف، والتسطير، والتنصيل. كما أنه وضع قواعد دقيقةً في ابتداءات الحروف وانتهاءاتها، وفي علل المدّات، وأنواع الأحبار، وفي أصناف بري القلم.

مؤلفاته ورسائله في فن الخط
وقد ترك لنا ابن مقلة عدداً من المؤلفات والرسائل والأشعار، بعضها ضاع بفعل الزمن، والآخر وصلنا ليدل على عمق ثقافة هذا المبدع، واتساع معرفته بصناعته، وخبرته الواضحة، وفنه الرفيع، ولعل من أهم وأشهر ما ترك رسالته في الخط المعروفة باسم ”رسالة الوزير ابن مقلة في علم الخط والقلم”.

كما كان ابن مقلة أولَ مَن اتخذ حرف الألف كمقياس ثابت لقياس بقية الحروف، ومنذ ذلك الحين والخطاطون يتخذون بداية الألف كأساس ثابت لوضع تصورهم في فن زخرفة الحرف العربي.

قطع يده ولسانه
لكن حسَّاده لم يزالوا بالخليفة حتى أوغروا صدره عليه، فألقي القبض عليه وسجن، ونُكِّل به، وكانت أكبر المحن والمصائب عندما أصدر الخليفة أمراً بقطع يده اليمنى، قال الذهبي: "قطع في شوال سنة ست وعشرين وثلاثمائة"اهـ.
وقيل إنها ألقيت في نهر دجلة، فكان يرثي يده ويقول: "قد خدمت بها الخلافة ثلاث دفعات لثلاثة من الخلفاء، وكتبت بها القرآن الكريم دفعتين، تقطع كما تقطع أيدي اللصوص “. وكان ينشد ويقول :
إذا ما مات بعضك فابك بعضاً .. .. فإن البعض من بعض قريب.
ويقول:
ليس بعد اليمـين لذة عيـشٍ .. .. يا حيـاتي بانت يميـني فبيني
ثم إن الخليفة عاد فأخلى سبيله وأكرمه.
وكان ابن مقلة يشد القلم إلى ساعده ويكتب به، وأخذ يمرن يده اليسرى حتى أجاد.

ثم تعرض ابن مقلة لمحن شديدة قاسية وبشعة لا يحتملها عقل، عندما أمر الخليفة الراضي بالله بقطع لسانه وحبسه ولم يكن له من يخدمه، فكان يستقي الماء لنفسه من البئر فيجذب بيده اليسرى جذبة وبفمه الجذبة الأخرى حتى توفي ودُفن فيه ثم نبُش فدفن في بيت ابنه، ثم نبش فدفن في بيت زوجته.

وفاته
قال الإمام الذهبي: كان "مولده في شوال سنة اثنتين وسبعين ومائتين، ومات في حادي عشر شوال سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة".. أي أنه عاش ستا وخمسين سنة... رحمه الله وغفر له.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة