الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مفهوم المسجد في السنة النبوية

مفهوم المسجد في السنة النبوية

مفهوم المسجد في السنة النبوية


من المفاهيم الشرعية التي تحتاج إلى تجديد في حياة المسلمين وعقولهم ووجدانهم مفهوم المسجد، فالمسجد في المفهوم الإسلامي بناء حسي ومعنوي، والحسي وسيلة للبناء المعنوي، يظهر ذلك جلياً من خلال الأحاديث الواردة في شأن المسجد، سواء في ذلك الأحاديث القولية، أو التطبيقية التي روت لنا طريقة تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع المسجد ورسالته.

المقصد من المسجد هو معنى المسجد ووظيفته وليس شكله، ويدل على ذلك النهي عن التباهي بها وزخرفتها كما يفعل النصارى في كنائسهم، فعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقوم الساعة، حتى يتباهى الناس في المساجد". أخرجه الخمسة إلا الترمذي، وصححه ابن خزيمة، ولفظ النسائي وابن خزيمة: "من أشرط الساعة أن يتباهى الناس في المساجد"، وإسناده صحيح على شرط مسلم.
يقول الشيخ عبد الله الفوزان في منحة العلام شرح بلوغ المرام: وهو دليل على تغير الأحوال من غلبة الجهل ونقص الدين وضعف الإيمان، وغلبة المقاصد الدنيوية على المقاصد الأخروية، ولهذا قال أنس رضي الله عنه: "يتباهون بها، ثم لا يعمرونها إلا قليلاً"، وقد حصل ما أخبر به صلّى الله عليه وسلّم حيث تباهى الملوك والخلفاء في بناء المساجد وتزويقها حتى أتوا في ذلك بالعجب، ولا زالت هذه المساجد قائمة حتى الآن في بلاد الشام ومصر، وبلاد المغرب والأندلس وغيرها، وفي عصرنا الحاضر اتضحت ظاهرة ‌التباهي ‌بالمساجد.
ومما يدل على ذلك أن الله لم يأمر نبيه بتشييد المساجد والاهتمام بهندستها الشكلية، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أُمِرْتُ بتشييد المساجد». أخرجه أبو داود، وصححه ابن حبان، قال ابن عباس: "لتُزَخْرِفُنّها كما زخرفت اليهود والنصارى" إسناده صحيح على شرط مسلم، كما قال النووي في الخلاصة، والمراد بالتشييد: رفع البناء وتطويله، يقال: شاد الرجل بناءه يشيده، وشيَّده يُشَيّده: طوَّله ورفعه.
وجاء في حديث أبي ذَرٍّ، عن النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: "مَنْ بنَى للَّه مسجدًا ولو كَمَفْحَصِ ‌قَطاة، بنَى اللَّهُ له بيتًا في الجنة" رواه ابن حبان والطبراني.
قوله: "كمفحص ‌قطاة" المَفْحَص: موضعها الذي تجثم وتبيض، كأنها تفحص عنه التُّراب؛ أي تكشفه، والفحص: البحث والكشف. والقطاة: نوعٌ من اليمام يعيش في الصحراء. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير.
قال ابن حجر: إنه أراد المبالغة في ذلك وإلا فمن المعلوم أن مفحص القطاة وهو قدر ما تحضن فيه بيضها لا يتصور أن يكون مسجدا. أ.هـ
وهذا التقييد لدفع الوهم الذي يحصل عند بعض الناس ممن يبالغ في تشييد المساجد ويهتم بزخرفتها بحجة الحصول على مثله في الجنة، فالحديث السابق يصرف هذا الوهم، ويوجه الاهتمام إلى إخلاص النية لله تعالى، والاكتفاء بما يحصل به المقصود، وأما المماثلة بين بناء الدنيا وبناء الجنة فلن يحصل ولو بني المسجد من خالص ذهب الدنيا؛ فموضع السوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها.
فقد تبين من هذا أن بناء المساجد من العبادات الأخروية التي لا تقبل المباهاة والتفاخر كما يفعل الناس في بيوتهم ومساكنهم فتلك أمور دنيوية، وأما المساجد فلها مقاصد أخروية، ولذلك لم يجعلها الشرع ميدانا للتفاخر؛ حتى لا يخرج المسجد عن رسالته ومقصده، فالبناء مجرد وسيلة موصلة إلى مقصد عظيم يتعلق بمعنى المسجد وعمارته بالعبادة وذكر الله والصلاة وغيرها من المقاصد الأخروية.

ولذلك فإن هذا البناء إذا كان مناقضا لمقاصده فإنه لا حرمة له، كما في مسجد الضرار الذي أسسه بعض المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه الوحي يأمره بهدمه وعدم الصلاة فيه، مع أنه مكتمل البناء على شكل المسجد وهيئته، قال تعالى: (وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسۡجِدٗا ‌ضِرَارٗا وَكُفۡرٗا وَتَفۡرِيقَۢا بَيۡنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَإِرۡصَادٗا لِّمَنۡ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ مِن قَبۡلُۚ وَلَيَحۡلِفُنَّ إِنۡ أَرَدۡنَآ إِلَّا ٱلۡحُسۡنَىٰۖ وَٱللَّهُ يَشۡهَدُ إِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ * لَا تَقُمۡ فِيهِ أَبَدٗاۚ لَّمَسۡجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقۡوَىٰ مِنۡ أَوَّلِ يَوۡمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِۚ فِيهِ رِجَالٞ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْۚ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُطَّهِّرِينَ *) [التوبة:107و108].
وقد نفى الله عن المشركين بناء المساجد فقال: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) - إلى قوله -: (مِنَ الْمُهْتَدِينَ) [التوبة:17و18].
والمعنى أنهم غير مؤهلين لإقامة مقاصدها المعنوية من العبادات التي تقام فيها، أما البناء الحسي فمتصور من حيث الواقع، كما قال ابن رجب في فتح الباري: عمارة المساجد تكون بمعنيين: أحدهما: عمارتها الحسية ببنائها وإصلاحها وترميمها، وما أشبه ذلك، والثاني: عمارتها المعنوية بالصلاة فيها، وذكر الله وتلاوة كتابه، ونشر العلم الذي أنزله على رسوله، ونحو ذلك، وقد فسرت الآية بكل واحد من المعنيين، وفسرت بهما جميعا، والمعنى الثاني أخص بها.
وفي بناء النبي صلى الله عليه وسلم لمسجده قدر كبير من التواضع مع أنه كان يمكنه تشييده، فقد روى البيهقي في السنن الكبرى، والطبراني في المعجم الكبير عن الحسن قال: لما بنى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- المسجد أعانه عليه أصحابه وهو معهم يتناول اللبن حتى اغبر صدره، فقال: "ابنوه عريشًا كعريش موسى". فقلت للحسن: ما عريش موسى؟ قال: إذا رفع يديه بلغ العريش -يعنى السقف-.
وفي الطبراني أيضا عبادة بن الصامت: قالت الأنصارُ: إلَي مَتَى يُصلي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلَىِ هذا الجرَيِد؟، فَجمعُوا لهُ دنَانير فأتوه بِها فَقالوا: نُصلحُ هذا المسْجِدَ ونُزينه، فقالَ: "لَيسَ لىِ رغْبةٌ عن أخى مُوسىَ، عَريشٌ ‌كَعريشِ ‌مُوسىَ"، وفي رواية: «عَريشاً ‌كعريشِ ‌موسى ثمام وخُشيباتٍ، والأمرُ أَعجلُ مِن ذلكَ».
وهذا لا يعني الدعوة إلى بناء المساجد اليوم على الهيئة النبوية من الجريد والطين والخشب، فإن البناء يتطور بتطور الزمن، وإنما المقصود كراهة المبالغة الشكلية مع التفريط بوظيفة المسجد التي هي الأصل، وهو الواقع اليوم مع كل أسف، وهو مصداق ما رواه ابن خزيمة في صحيحه عن أنس مرفوعًا: أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «يأتي على النَّاس زمان يتباهون بالمساجد، ثم لا يعمرونها إلا قليلًا».

فزخرفة المساجد، والتباهي بها ظاهر في زماننا، حيث أصبح كلٌّ يفخر على الآخر بشكل مسجده الهندسي المتفرد! وليس ذلك من باب التعظيم لها، لكن من باب التباهي المكروه شرعا، ويدل على ذلك أنها تحولت إلى تحف هندسية وحسب، وكان المفترض أن تستكمل مهمتها فتتحول إلى منارات للعلم، يتعلم فيها الجاهل، ويُفتَى فيها السائل، ويوعظ فيها الغافل، ويرشد فيها الحائر، ويثبت فيها السائر، ويسلم فيها الكافر، ويستنهض فيها العاثر، ويصلح فيها ذات البين، ويفتق فيها ألسنة الصبية بحفظ كتاب الله، ويزكون فيها بالأخلاق والقيم الإسلامية السامية، فهذا هو المسجد الذي قصده الإسلام، وحث على بنائه، ورتب على ذلك الأجور العظيمة، مع أن في الواقع المعاصر اليوم نماذج لا تخفى من المساجد العامرة، لها دوي كدوي النحل آناء الليل والنهار من العباد والتالين والمعتكفين والدارسين، غير أنها قليلة، ويجب أن تكون هي الأصل في مساجد المسلمين، فالعلماء الراسخون، والصلحاء والمصلحون إنما كانوا من بركات تلك المساجد المباركة.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة