الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

من أسباب الغلو الخطأ في تفسير الإيمان

من أسباب الغلو الخطأ في تفسير الإيمان

من  أسباب الغلو الخطأ في تفسير الإيمان

عقد ابن تيمية رحمه الله فصلًا في كتابه: العقيدة الواسطية باسم: وسطية أهل السنة والجماعة بين فرق الأمة، وقال: "بل هم الوسط في فرق الأمة كما أن الأمة هي الوسط في الأمم"، وثمة أسباب كثيرة حملت البعض قديمًا وحديثًا على أن حادوا عن هذه الوسطية التي جاء بها دين الإسلام، ووقعوا في الغلو الذي نهى الله تعالى عباده عنه.

ويمكن في هذه العجالةأن نقف على أول أسباب الغلو وأهمها، ونرجئ الحديث عن بقيتها إلى مقالات أخرى، وذلك حتى نكون في تديُّننا على الوسطية والاعتدال اللذان جاء بهما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
الخطأ في تفسير الإيمان: من أبرز الأسباب التي أوقعت بعض الفرق في الغلو في الدين؛ خطؤهم في تفسير معنى الإيمان. والإيمان في اللغة هو الأمانة والتصديق، الأمانة التي هي ضد الخيانة ومعناها سكون القلب، والتصديق كقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17] أي مصدق لنا، ويرى ابن تيمية أن الإيمان هو الإقرار وليس مجرد التصديق قال في ذلك: "فكان تفسيره بلفظ الإقرار أقرب من تفسيره بلفظ التصديق مع أن بينهما فرقًا".
وعُرّف الإيمان شرعًا بأنه: "قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، وأنه يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية"، قال البخاري: "لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار؛ فما رأيت أحدًا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص"، وقد دلَّ على زيادة الإيمان بالطاعة ونقصه بالمعاصي آيات وأحاديث كثيرة، منها قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]، وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2].
ومن الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون -أو بضع وستون- شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» رواه مسلم. وهذا الحديث يدل على أن الأعمال الصالحة تدخل في مسمى الإيمان، وهي من شعبه كما قال ابن القيم وغيره.
إضافة إلى ذلك فقد دلت الآيات والأحاديث على أن العبد قد يجتمع في قلبه إيمان وكفر، أو إيمان ونفاق في آن واحد، فمن ذلك قوله تعالى: {مَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]، ففي هذه الآية أثبت الله تعالى لهم إيمانًا مع وجود الشرك. ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» رواه البخاري. فهذا الحديث يدل أنه قد يوجد في قلب المسلم خصلة أو خصال من نفاق مع وجود الإيمان فيه.
ولما أخطأت بعض الفرق حقيقة الإيمان وعلاقته بالأعمال؛ ضلت عن الوسطية التي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقعت في الغلو، ومن ذلك ما نقله ابن تيمية عن الخوارج والمعتزلة في تفسيرهم دخول الأعمال في الإيمان فقال: "قالت الخوارج والمعتزلة قد علمنا يقينا أن الأعمال من الإيمان فمن تركها فقد ترك بعض الإيمان، وإذا زال بعضه زال جميعه؛ لأن الإيمان لا يتبعض، ولا يكون في العبد إيمان ونفاق، فيكون أصحاب الذنوب مخلدين في النار، إذ كان ليس معهم من الإيمان شيء".
ومنشأ ضلال هؤلاء ظنهم أن الشخص لا يكون مستحقًا للثواب والعقاب، أو للوعد والوعيد في آن واحد، بل إما هذا أو هذا لأن الإيمان عندهم لا يتبعض، فلما ارتكب العبد الكبيرة حبطت حسناته، وزال عنه اسم الإيمان، لأن الإيمان هو الطاعة، وقد زالت بالمعصية. وبناء على هذا التفسير للإيمان حكموا بالكفر على كثير من المسلمين بمجرد ارتكابهم الكبائر، ومن ثمَّ ناصبوهم العداء وقاتلوهم.
وعلى هذا التفسير للإيمان سار الغلاة في هذا العصر، ومثلوا للإيمان برجل خرج مسافرًا من بلد إلى آخر، وقبل وصوله إلى وجهته بقليل توقف لسبب ما، فجعلوا الوجهة الحد الأدنى من الإسلام، وعدم وصوله إليها يعني أنه لم يحصل على الحد الأدنى منه، ولا يفيده ما ساره قبل ذلك. وعلى هذا التفسير حكموا بالكفر على كثير من المسلمين أيضًا، ووقعت منهم بسبب ذلك كثير من التجاوزات في الدماء وغيرها مما لا يقرهم الإسلام عليه.
وكان من رد العلماء على مثل هذه الشبهة أن قالوا: إن المركبات قسمان، قسم يكون التركيب شرطًا لإطلاق الاسم عليه، وقسم لا يكون التركيب شرطًا لإطلاق الاسم عليه، فالأول مثل الرقم عشرة فالواحد المكمل لرقم عشرة شرط لإطلاق اسم عشرة على هذه الأعداد. والثاني مثل البحر والنهر، فلا يلزم من نقصان البحر شيئًا زوالُ اسم البحر عنه، بل الاسم باق من نقصانه، قال ابن تيمية: "ومعلوم أن اسم الإيمان من هذا الباب؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان» ثم من المعلوم أنه إذا زالت الإماطة ونحوها لم يزل اسم الإيمان".
ومثل هذا البيان يوقف المسلم على ضرورة معرفة معنى الإيمان وما يترتب عليه معرفة مستقاة من أهل العلم، وذلك حتى لا يقع في الغلو، ويحكم على عباد الله بالكفر والضلال.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة