الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

من أسباب الغلو في الدين

من أسباب الغلو في الدين

من أسباب الغلو في الدين

الحمد لله الذي جعل أمة الإسلام أمة وسطا عدولا: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرة: 143). والصلاة والسلام على خير الأنام محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، وبعد:
فإن الغلو في الدين مذموم، وقد يؤدي إلى استباحة الدماء والأعراض والأموال المحترمة التي لا يجوز الاعتداء عليها، وإنما ينتج الغلو عن سوء الفهم من قبل بعض الناس لنصوص الوحي المعصوم، فالعيب في أفهام هؤلاء لا في نصوص الوحي.
ومن باب النصيحة لأمتنا نحاول التعرف على الأسباب التي أدت إلى وجود الغلو، ولا شك أن معرفة الأسباب مما يساعد في العلاج لهذه الظاهرة التي إن استفحلت أدت إلى إزهاق الأرواح وإهلاك الحرث والنسل، وشيوع الفتن التي تعصف بمن أصابته.

ومن أهم أسباب الغلو ما يلي:
أولا: الجهل بالدين:
مما لا شك فيه أن أهم أسباب الغلو هو الجهل بدين الله تعالى، ففي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عن الخوارج: "يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ". أي: أنهم يأخذون أنفسهم بقراءة القرآن وإقرائه وهم لا يتفقهون فيه ولا يعرفون معانيه ومقاصده. ومن مظاهر هذا الجهل أنهم لا يفهمون معاني آيات الكتاب العزيز، يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما - في الخوارج: (إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين). وقال عنهم الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: (وكان أول كلمة خرجوا بها قولهم: لا حكم إلا لله انتزعوها من القرآن وحملوها على غير محملها).
ومن جهل هؤلاء بالقرآن أنهم أخذوا عمومات الوعيد فقالوا: إن معصية واحدة كافية للخلود في النار؛ استدلالا بمثل قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (النساء: 14])، فلم يستطيعوا لجهلهم الجمع بين أدلة الوعد وأدلة الوعيد.
ومن أوضح مظاهر جهل هؤلاء الغلاة طريقة تعاملهم مع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولو نظرت إلى الخوارج مثلا لوجدت أنهم قد يصلون إلى إنكار السنة، حتى لقد بين عبد القاهر البغدادي أن الخوارج ينكرون السنة وذلك من أسباب انحرافهم فقال: (والثاني مع الخوارج في إنكارها حجية الإجماع والسنن الشرعية، وقد زعمت أنه لا حجة في شيء من أحكام الشريعة إلا من القرآن، ولذلك أنكروا الرجم والمسح على الخفين، لأنهما ليسا في القرآن، وقطعوا السارق في القليل والكثير؛ لأن الأمر بقطع السارق في القرآن مطلق ولم يقبلوا الرواية في نصاب القطع ولا الرواية في اعتبار الحِرز فيه، ولقد أُتوا من ظنهم مناقضة هذه الأحاديث الصحيحة للقرآن، أو مناقضة بعضها لبعض، أو فساد معانيها، أو مخالفتها للمعقول).

ثانيا مجافاة العلماء والإعراض عنهم:
وهذا من أهم الأسباب التي تراها في هؤلاء الغلاة أنهم يعتدُّون بآرائهم ويُعرضون عن العلماء ويطعنون فيهم، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد حذر من الاستهانة بالعلماء حين قال: "ليس من أمَّتي مَن لم يُجِلَّ كبيرَنا ويرحَمْ صغيرَنا ويعرِفْ لعالِمِنا حقَّه". فهل يصل هؤلاء إلى الهداية بغير سؤال العلماء والجلوس بين أياديهم لتلقي العلم عنهم؟!!.
لقد أدى بهم هذا الأمر إلى التعامل المباشر مع النصوص، وقد ذكر أهل العلم أن التعامل مع النصوص يحتاج إلى أمرين أساسيين:
الأول: معرفة اللغة التي تكلم بها الشارع.
الثاني: معرفة مقصوده من اللفظ.
ويعرف مقصود الشارع سبحانه بمعرفة سنته في الخطاب فتجمع النصوص ليخرج من مجملها بفهم مراد الشارع كما يفهم أيضا المقصود بالرجوع إلى السنة وأقوال الصحابة وأهل العلم الراسخين.
لقد أعرض أكثر هؤلاء الغلاة عن هذا المنهج فضلوا وأضلوا، ومن أمثلة ذلك: اعتمادهم على قول الله - عز وجل - {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: 81]).
ولو جمع هؤلاء النصوص لفقهوا معنى (السيئة) و (الخطيئة) ذلك أنه عند التأمل في الكتاب العزيز نجد أن السيئة والخطيئة تطلقان على الشرك فما دونه من السيئات والخطايا.
فمن إطلاقها على الشرك قوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} (نوح: 25) وقوله سبحانه: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: 81).
ومن إطلاقها على ما دون الشرك قوله سبحانه: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31] وقوله سبحانه على لسان إبراهيم: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} (الشعراء: 82).
وعليه فليست الآية كما يظهر لأول وهلة أنها دالة على أن مرتكب السيئة كافر، خصوصا إذا رجعنا إلى الآية المحكمة من مثل قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (النساء: 48).
فلو أن هؤلاء الغلاة اتبعوا المنهج القرآني الرباني، وامتثلوا أمر الله بالرجوع إلى العلماء الراسخين لنجوا بإذن الله من هذه الآفة، قال الله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} (النساء: 83).

ثالثا: شيوع الظلم:
مما لا شك فيه أن من أهم أسباب الغلو شيوع الظلم في كثير من البلاد، والاعتداء على الشباب بسجنهم بغير حق، وتعذيبهم، وحرمانهم من أبسط حقوقهم.
إن هذا الأمر له عواقب وخيمة تؤدي بفئة من هؤلاء الشباب الذين وقع عليهم الظلم - وقد قل حظهم من العلم - إلى الارتماء في أحضان التكفيريين والغلاة رغبة في الانتقام بسبب ما وقع عليهم من مظالم.
وإن رفع الظلم عن الناس وتحقيق العدل بينهم لهو من أولى الأولويات التي يجب على أولي الأمر في أي مكان أن يعملوا من أجلها؛ قياما بالواجب الذي كلفهم الله به، وحماية للمجتمعات من آثار هذه المظالم.

رابعا: الفقر والحرمان وفقدان الأمل:
إنه من أهم أسباب الغلو والانحراف، فحين يعيش الشباب حياة الحرمان، ولا يرون في الأفق ما يبشر بتغيير الحال إلى الأحسن فإنهم يصبحون تربة خصبة للأفكار المنحرفة خصوصا في المجتمعات التي تعاني من الطبقية والتمييز ويطغى فيها الغني على الفقير. لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من الفقر، ففي الحديث: "اللهم إني أعوذُ بك من الكفر والفقر". وتأمل كيف قرن في الاستعاذة بالله من الكفر والفقر لأنه قد يؤدي إليه!!.
فينبغي على الدول والمجتمعات أن تحارب الفقر وأن تسعى في كفاية بل إغناء الفقراء ورعاية المحرومين وفتح أبواب الأمل أمام الشباب في مستقبل أفضل.

خامسا: الحرب على الدين ومهاجمة الشعائر الدينية:
إن الناظر في واقع بعض بلاد المسلمين اليوم يرى دينه يُحَارَب ويُنتَقَص وتُهُاجَم شعائره على بعض شاشات التلفاز وفي وسائل التواصل دون ردع أو حتى إتاحة المجال للرد، وحين يتكرر الأمر ويصبح عادة في هذه الوسائل فقد يستغل بعض المنحرفين فكريا هذا الأمر الخطير لإقناع الشباب بأفكارهم المنحرفة.
لابد من حماية الدين من المتطاولين عليه المستهزئين به الذين فتحت لهم بعض المنابر الإعلامية لنشر سمومهم وإلحادهم وفجورهم، فهذا في ذاته غلو وتطرف وغالبا ما يواجه بتطرف مضاد، فتصبح مجتمعاتنا فريسة لهؤلاء المتطرفين من الجانبين.

سادسا: غياب القدوة أو تغييبها:
في كثير من الأحيان لا يجد الشباب أمامه من القدوات من يصلح الاقتداء به، ليس هذا في الحقيقة راجعا إلى غياب القدوات بل هو راجع إلى تغييبها، فالمجتمعات المسلمة بفضل الله يكثر فيه الخير والصالحون والقدوات في كل مجال، لكن الشباب لا تبرز أمامهم إلا النماذج الأخرى من التافهين والمهرجين.
لابد من إبراز هذه القدوات الصالحة في جميع المجالات النافعة في الدين والسياسة والاقتصاد والعلم والمعرفة والمخترعات وغيرها من أبواب الخير حتى يقتدي بها الشباب ويبتعدوا عن منابع الغلو وأسبابه.
نسأل الله أن يحفظ البلاد والعباد وأن يقينا شر الغلو والانحراف، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على المبعوث رحمة للعالمين.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة