إن المتتبع لحركة التاريخ يجد أن الغلو متجذر في البشرية من بداياتها، ودائما في الناس مَن هم نزاعون للتطرف والغلو، ويبغونها عوجاً، ويتنكبون الصراط المستقيم.
وإن المرء ليعجب من بعض النفوس التي تميل للغلو حتى في زمن الأنبياء، وبحضور من جاءوا لإقامة الميزان والعدل، وفي وجود الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، وبين يديه؛ كان صاحب الغلو ينطق هجرا وزورا "هذه قسمة ما أريد بها وجه الله" هكذا تصل الوقاحة بالمتنطعين والغلاة المسرفين أن يتهموا أمين السماء، وصاحب الرسالة، ويتخيلوا أنفسهم أنهم أحرص على العدل والحق من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
ولا يزال هذا التيار يتناسل إلى يوم الناس هذا، ليكون وصمة عار دوما على الأمة لغلوه وشططه وبعده عن الحق، وتحميله للناس ما لا يطيقون.
وعلى يد هذا التيار الغالي كانت نكبات المسلمين دائما، وأقبلت الفتن على أيديهم في كل زمان ومكان.
من صفاتهم
وللغلاة مناهج فاسدة، ومقولات سمجة يرددونها دوما، ولهم مظاهر وصفات تلازمهم أين ما حلوا، وهي صفات تتجلى كثيرا فيما يلي:
1- التعالُم والغرور، وادعاء احتكار الحق؛ تجد أحدهم لا يعرف بدهيات العلم الشرعي، والأحكام وقواعد الدين، وقد اطلع اطلاعا عشوائيا على بعض النصوص الشرعية بلا أصول ولا ضوابط، ولا فقه ولا رأي سديد، ويظن أنه بعلمه القليل وفهمه السقيم قد حاز علوم الأولين والآخرين، فيستقل بغروره عن العلماء، بل يكون له رأي في العلماء الراسخين، وتتبع لهم ليضخم أخطاءهم، متهما علماء الأمة بالجبن والمداهنة، أو بالسذاجة وقلة الوعي والإدراك.
2- التعصب للرأي وإلغاء الآخر: فالواحد من هؤلاء يظن أنه هبة السماء للأرض، وأنه لولاه لما كانت الأمة ، ولا استقامت الملة، وأنه حامي حمى الدين، لأنه سمع حديثا أو حديثين، أصبح حامل لواء الجرح والتعديل، والحكم والتأويل، لا يُلقي للخلاف الفقهي بالا، ولا يرى لغيره رأياً، يظن نفسه فوق أبي حنيفة النعمان، ودونه كل فقيه ومحدث من بداية الزمان.
3- الشدة والعنف مع الآخرين: هؤلاء الغلاة يمتازون بغلظة وشدة فوق الوصف، ومع كل مخالف لهم، ولا يقدرون سابقة لأحد، ولا يقدرون عملا صالحا لغيرهم، وقد لازم العنف هذه المجموعات وكان سمة غالبة عليهم، وقد استخدموا العنف في غير محله، وكأن الأصل في التعامل مع الغير هو العنف والغلظة لا الرفق والرحمة، وهذه الشدة أصبحت هي الطابع الغالب على سلوك بعض الشباب، وقد تجاوز العنف حدود القول إلى العمل، فسفكت دماء بريئة بسببه، ودمرت منشآت، ولقد تسبب هذا العنف في أضرار فادحة على أصحابه وعلى الأمة جمعاء.
وقد بلغ هذا الغلو بهم مبلغا شديد الخطورة، حتى مع أقرب الناس لهم، وقد رأينا من بعض هؤلاء الشباب من كانت له مواقف غاية في العنف حتى مع والديه، فهو لا يسلم منه أحد، حتى أن بعضهم كان يسمي أباه (آزر) مع أن أباه كان مسلما ، لكنه لم يتبع طريقته هو؛ فهو بهذا يزكي نفسه أنه فقط حامل لواء التوحيد كـ"الخليل إبراهيم عليه السلام" ، وما عداه كافر حتى ولو كان أبوه الذي يصلي ويصوم ويقيم شعائر الملة كلها.
4- التشدد في مسائل الخلاف الفقهي: هذه الفئة همها التشديد على الناس في الحلال والحرام، وتوسيع دائرة الحرام، والميل لقطع الخلاف الفقهي بالكلية، والفتوى بالأشد والأكثر حرجا على الناس، وحمل الناس على قوله، ومطالبة الناس بما لا يطيقون، وإلزامهم بما لا يلزمهم به الشرع السهل، وعدم مراعاة قدرات الناس وتفاوتها، وطاقاتهم واستطاعتهم، ويقومون بإلغاء أقوال العلماء وطرحها، ويظن أحدهم أنه بذلك إنما يأخذ بالأحوط وما درى المسكين أن علماء الأمة مستأمنون على شريعة الله، وأن الخلاف المعتبر إنما كان تخفيفا من الله على البشر، وشريعة جاء بها سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم.
من أسباب الغلو
ولا شك أن هذا الغلو له أسبابه التي دفعت لاعتناقه، ومن أبرز هذه الأسباب من وجهة نظري:
- طبائع كامنة في النفوس، فبعض البشر فيه غلظة طَبعِية، وجلافة خَلقية، وهؤلاء أصلا فيهم استعداد لاحتقار الآخرين، والمس من كرامة غيرهم، وفي نفوسهم كبر وبطر، فيتخذون من تدين غير مؤصل، وتعلم غير مؤطر سلاحا ينفثون به سموم نفوسهم المريضة.
- الإحباط العام الذي يجتاح كثيرا من شباب العرب مرتع وخيم للغلو والتطرف.
- الانغلاق العام وعدم الحريات، وغياب الحواروسطوة الأجهزة القمعية في بعض بلاد العرب، يفرخ الشطط والغلو.
- غياب المحاضن العلمية والتربية أو قلتها يجعل الساحة خالية لمن لا علم لهم، ولا خلاق، فيزرعون في الشباب مفاهيم تكون سبباً في الغلو والتطرف.
- وجود تيارات مشبوهة تمول من أعداء الأمة لتشويه صورة الإسلام والصد عنه.