الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الكناية في القرآن الكريم

الكناية في القرآن الكريم

الكناية في القرآن الكريم
تَعُدُّ العرب (الكناية) من البراعة والبلاغة، وهي عندهم أبلغ من التصريح، قال الطرطوسي: "وأكثر أمثالهم الفصيحة على مجاري الكنايات"، منها قولهم: فلان عفيف الإزار، طاهر الذيل، ويكنون عن الزوجة بربة البيت، وعن الأعمى بالمحجوب والمكفوف، وعن الأبرص بالوضاح وبالأبرش وغير ذلك؛ وفي الحديث: (كان إذا دخل العشر أيقظ أهله وشد المئزر) رواه مسلم، فكنَّى عن ترك الوطء بشد المئزر. وقوله صلى الله عليه وسلم: (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) متفق عليه، كنى عن الجماع بالعسيلة، وقوله صلى الله عليه وسلم: (رويدك بالقوارير) متفق عليه، كنى عن النساء بالقوارير لضعف قلوبهن.
و(الكناية) عن الشيء الدلالة عليه من غير تصريح باسمه، وهي عند أهل البيان: أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني، فلا بذكره باللفظ الموضوع له من اللغة، ولكن يجيء إلى المعنى هو تاليه ورديفه في الوجود، فيومئ به إليه، ويجعله دليلاً عليه، فيدل على المراد من طريق أولى؛ مثاله قولهم: "طويل النجاد"، و"كثير الرماد" يعنون طويل القامة، وكثير الضيافة، فلم يذكروا المراد باللفظ الخاص به، ولكن توصلوا إليه بذكر معنى آخر هو رديفه في الوجود؛ لأن القامة إذا طالت طال النجاد، وإذا كثر القِرى كثر الرماد.
قال الطَّرَطُوسي: "اختلف في وجود الكناية في القرآن، وهو كالخلاف في المجاز، فمن أجاز وجود المجاز فيه أجاز الكناية، وهو قول الجمهور، ومن أنكر ذلك أنكر هذا". وقال العز ابن عبد السلام: "الظاهر أنها ليست بمجاز؛ لأنك استعملت اللفظ فيما وُضِعَ له، وأردت به الدلالة على غيره، ولم تخرجه عن أن يكون مستعملاً فيما وُضِعَ له، وهذا شبيه بدليل الخطاب في مثل قوله تعالى: {فلا تقل لهما أف} (الإسراء:23).
والكناية -وفق قول الجمهور- كثيرة في القرآن، ولها أسباب، منها:
أحدها: التنبيه على عظم القدرة الإلهية، كقوله تعالى: {هو الذي خلقكم من نفس واحدة} (الأعراف:189) كناية عن آدم عليه السلام.
ثانيها: فطنة المخاطَب، كقوله سبحانه في قصة النبي صلى الله عليه وسلم وزيد: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم} أي: زيد {ولكن رسول الله} (الأحزاب:40)، ومن هذا القبيل قوله سبحانه: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا} (البقرة:23) المراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثالثها: ترك اللفظ إلى ما هو أجمل منه، كقوله تعالى: {إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة} (ص:23) فكنى بالمرأة عن النعجة كعادة العرب أنها تكني بها عن المرأة. ومثله قوله عز وجل: {إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة} (الأنفال:16) كنَّى بالتحيُّز عن الهزيمة.
رابعها: أن يفحش ذكره في السمع، فيكني عنه بما لا ينبو عنه الطبع، قال تعالى في جواب قوم هود: {إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين * قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين} (هود: 66-67) فكنى عن تكذيبهم بأحسن.
ومن عادة القرآن الكريم الكناية عن الجماع باللمس والملامسة والرفث والدخول والنكاح ونحوهن، قال تعالى: {فالآن باشروهن} (البقرة:187) فكنى بالمباشرة عن الجماع؛ لما فيه من التقاء البشرتين. وقوله تعالى: {أو لامستم النساء} (النساء:43)؛ إذ لا يخلوا الجماع عن الملامسة. وقوله عز وجل في الكناية عنهن: {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} (البقرة:187) واللباس من الملابسة، وهي الاختلاط والجماع. وكنَّى عنهن في موضع آخر بقوله: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} (البقرة:223). وقوله تعالى: {وراودته التي هو في بيتها} (يوسف:23) كناية عما تطلب المرأة من الرجل.
ومنه قوله تعالى في مريم وابنها عليهما السلام: {كانا يأكلان الطعام} (المائدة:75) فكنى بأكل الطعام عن البول والغائط؛ لأنهما منه مسبَّبان، إذ لا بد للآكل منهما، لكن استقبح في المخاطب ذكر الغائط، فكنى به عنه. ومذهب الجاحظ أنَّ الكلام على ظاهره، ويكفي في الدلالة على عدم الإلهية نَفْسُ أكل الطعام؛ لأنَّ الإله هو الذي لا يحتاج إلى شيء يأكله، ولأنه كما لا يجوز أن يكون المعبود مُحْدِثاً، كذلك لا يجوز أن يكون طاعماً، قال الخفاجي: وهذا صحيح. وأُجيب عن هذا بأنَّ الكناية عن الغائط فيه تشنيع وبشاعة على من اتخذهما آلهة. فأما قوله تعالى: {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق} (الفرقان:20) فهو على حقيقته.
فإن قيل: فقد صرح به في قوله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط} (النساء:43) فالجواب: أنه جاء على خطاب العرب وما يألفون، والمراد تعريفهم الأحكام، فكان لا بد من التصريح به، على أنَّ الغائط أيضاً كناية عن النجو، وإنما هو في الأصل اسم للمكان المنخفض من الأرض، وكانوا إذا أرادوا قضاء حاجتهم أبعدوا عن العيون إلى منخفض من الأرض، فسمي منه لذلك، ولكنه كثر استعماله في كلامهم فصار بمنزلة التصريح.
ومنه قوله تعالى: {فجعلهم كعصف مأكول} (الفيل:5) كنى به عن مصيرهم إلى العذرة؛ فإن الورق إذا أُكِلَ، انتهى حاله إلى ذلك.
وقوله تعالى: {وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا} (فصلت:21) أي: لفروجهم، فكنى عنها بالجلود على ما ذكره المفسرون. فإن قيل: فقد قال سبحانه: {والتي أحصنت فرجها} فصرح بالفرج؟ أجيب بأنَّ (الفرج) هنا استعمل بمعناه الحقيقي، وإنما هو من لطيف الكنايات وأحسنها، وهي كناية عن فرج القميص، أي: لم يعلق ثوبها ريبة، فهي طاهرة الأثواب وفروج القميص أربعة: الكمان والأعلى والأسفل، وليس المراد غير هذا؛ فإن القرآن أنزه معنى، وألطف إشارة، وأملح عبارة من أن يريد ما ذهب إليه وَهْمُ من وَهِمَ وظن أن المراد معناه الحقيقي، ولا سيَّما و(النفخ) من روح القدس بأمر القدوس، فأضيف (القدس) إلى القدوس، ونزهت القانتة المطهرة عن الظن الكاذب والحدس. ذكره السهيلي في (التعريف والإعلام).
وقال ابن دقيق العيد في قوله تعالى: {يجعلون أصابعهم في آذانهم} (البقرة:19): إن ذكر الإصبع هنا جامع لأمرين: أحدهما: التنزه عن اللفظ المكروه. والثاني: حط منزلة الكفار عن التعبير باللفظ المحمود، والأعم يفيد المقصودين معاً، فأتى به، وهو لفظ الإصبع، وقد جاء في الحديث الأمر بالتعبير بالأحسن مكان القبيح ،كما في حديث: (إذا أحدث أحدكم في صلاته فليأخذ بأنفه، ثم لينصرف) رواه أبو داود، أَمَر بذلك إرشاداً إلى إيهام سبب أحسن من الحدث وهو الرعاف، وهو أدب حسن من شرع في ستر العورة وإخفاء القبيح.
خامسها: تحسين اللفظ كقوله تعالى: {كأنهن بيض مكنون} (الصافات:49) فإن العرب كانت عادتهم الكناية عن حرائر النساء بالبيض، قال امرؤ القيس:
وبيضة خدر لا يرام خباؤها تمتعت من لهو بها غير معجل
سادسها: قَصْد البلاغة، كقوله تعالى: {أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين} (الزخرف:18) فإنه سبحانه كنى عن النساء بأنهن ينشأن في الترفه والتزين والتشاغل عن النظر في الأمور ودقيق المعاني، ولو أتى بلفظ النساء لم يُشعر بذلك، والمراد نفي ذلك -أعني الأنوثة- عن الملائكة وكونهم بنات الله، تعالى الله عن ذلك.
سابعها: قصد المبالغة في التشنيع، كقوله تعالى حكاية عن اليهود لعنهم الله: {وقالت اليهود يد الله مغلولة} (المائدة:64) فإن الغُل َّكناية عن البخل، كقوله تعالى: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك} (الإسراء:29). وأما قوله تعالى: {غلت أيديهم} (المائدة:64) فيُحمل على المجاز على وجه الدعاء والمطابقة للفظ، ولهذا قيل: إنهم أبخل خلق الله، والحقيقة أنهم تغلُّ أيديهم في الدنيا بالإسار، وفي الآخرة بالعذاب وأغلال النار.
وقد قيل: إن من عادة العرب أنها لا تكني عن الشيء بغيره إلا إذا كان يقبح ذكره؛ وذكروا احتمالين في قوله عز وجل: {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض} (النساء:21) أحدهما: أنه كنى بالإفضاء عن الإصابة. والثاني: أنه كنى عن الخلوة. ورجحوا الأول؛ لأن العرب إنما تكني عما يقبح ذكره في اللفظ، ولا يقبح ذكر الخلوة، وهذا حسن، لكنه لا يصلح للترجيح. وأما دعوى كون العرب لا تكني إلا عما يقبح ذكره فغلط، فقد كنُّوا عن القلب بالثوب، كما في قوله تعالى: {وثيابك فطهر} (المدثر:4) أي: وقلبك فطهِّر، قاله ابن عباس رضي الله عنه، دليله قول امرئ القيس:
وإن كنتِ قد ساءتك منى خليقة فسلِّي ثيابي من ثيابك تنسل
أي: قلبي من قلبك.
أخيراً، فقد صرح عبد القاهر الجرجاني في كتابه (دلائل الإعجاز) بأن الكناية لا بد لها من قرينة، والقرينة تستفاد من سياق الكلام.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة