الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَام

ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَام

ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَام

الله عز وجل ليس كمثله شيء، فإنه سبحانه الكامل في أسمائه الحُسْنَى وصفاته العُلى، الذي دلت النصوص والعقول على أنه لا نظير له سبحانه وتعالى، فلا مثيل له في ربوبيته، ولا مثيل له في إلهيته، ولا مثيل له في أسمائه وصفاته، قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}(الشورى:11). قال السعدي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أي: ليس يشبهه تعالى ولا يماثله شيء مِن مخلوقاته، لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، لأنَّ أسماءه كلها حسنى، وصفاته صفات كمال وعظمة، وأفعاله تعالى أوْجد بها المخلوقات العظيمة من غير مشارِك، فليس كمثله شيء، لانفراده وتوحده بالكمال من كل وجه.. وهذه الآية ونحوها، دليل لمذهب أهل السنة والجماعة، من إثبات الصفات، ونفي مماثلة المخلوقات. وفيها رد على المُشَبِّهَة في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وعلى المُعَطِّلة في قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}".
وأسماء الله تعالى وصفاته توقيفية مصدرها القرآن الكريم والسنة النبوية، لا مجال للعقل والاجتهاد فيها، يجب الوقوف فيها على ما جاء به القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة. وأهل السنة يثبتون ما أثبته الله عز وجل لنفسه ـ من أسماء وصفات ـ في كتابه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، مِن غير تحريف ولا تعطيل، ومِن غير تكييف ولا تمثيل، كما ينفون ما نفاه الله عن نفسه في كتابه، أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم. والتحريف: معناه تغيير ألفاظ الأسماء والصفات، أو تغيير معانيها عن مراد الله بها. والتعطيل: هو نفي أسماء الله وصفاته أو بعضها.. والتكييف: هو الاعتقاد أن صفات الله تعالى على كيفية أي شيء مما تتخيله أو تدركه العقول.. وأما التمثيل: فمعناه اعتقاد مماثلة أي شيء من صفات الله تعالى لصفات المخلوقات.
وفي "ذم التأويل لابن قدامة": "قال ابن خُزَيمة: إنَّ الأخبار في صِفاتِ الله مُوافِقة لكِتاب اللهِ تعالى، نقَلَها الخَلَفُ عن السَّلَفِ قَرنًا بعد قرْنٍ مِن لَدُنِ الصَّحابة والتَّابعينَ إلى عَصْرِنا هذا، على سَبيلِ الصِّفاتِ للهِ تعالى، والمعرفةِ والإيمانِ به، والتَّسليمِ لِما أخبَرَ اللهُ تعالى في تنزيلِه، ونَبيُّه الرَّسول صلى الله عليه وسلم عن كتابه، مع اجتِناب التَّأويل والجُحود، وتَرْكِ التَّمثيل والتَّكييف". وقال: "وقال بَعضهم يروى ذلك عَن الشَّافِعِي رَحْمَة الله عليه: آمَنتُ بِمَا جَاء عَن الله، على مُرَاد الله، وَبِمَا جَاءَ عَن رسول الله، على مُرَاد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم". وقال ابن عبدِ البَرِّ في "التمهيد": "أهلُ السُّنَّة مُجْمِعون على الإقرارِ بالصِّفات الوارِدة كُلِّها في القُرآن والسُّنَّة، والإيمان بها، وحَمْلِها على الحقيقة لا على المجاز، إلَّا أنَّهم لا يُكَيِّفون شَيئًا مِن ذلك ولا يَحُدُّونَ فيه صِفة مَحصورة.. والحَقُّ فيما قاله القائِلونَ بما نَطَق به كِتابُ اللهِ وسُنَّةُ رَسولِه، وهم أئمَّةُ الجَماعة (السُنة)، والحَمدُ لله". وقال أبو بكر الإسماعيلي الجرجاني: "ويعتقدون ـ يعني: أهل السنة والجماعة ـ أن الله تعالى مدعو بأسمائه الحسنى، وموصوف بصفاته التي سمى ووصف بها نفسه، ووصفه بها نبيه صلى الله عليه وسلم". وقال ابن تيمية في "منهاج السنة النبوية": "ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله عز وجل بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. يثبتون له الأسماء والصفات".

ومِن صفات الله سبحانه وتعالى الواردة والثابتة بالأدلة من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة صفة "الجلال". و"الجلال" مِنْ جَلّ الشيء إذا عَظُم، ويقال "أمرٌ جَلَل": أي أمر عظيم.. ولا ريب أن صفة "الجلال" لله عز وجل صفة مَدْح وكمال، وصفات الله تعالى كلها صفات كمال، لا نقص فيها بوجه من الوجوه. قال ابن منظور في "لسان العرب": "وجَلالُ الله عظمتُه، ولا يقال الجَلال إِلا لله، والجَلِيل من صفات الله تقدس وتعالى، وقد يوصف به الأَمر العظيم والرجل ذو القدر الخَطِير". وقال البَيهقيُّ في "الاعتقاد": "الجليل: هو مِن الجَلال والعَظَمة، ومعناه ينصَرِف إلى جَلالِ القُدرة وعِظَمِ الشَّأن، فهو الجَليلُ الذي يَصغُرُ دونَه كُلُّ جليلٍ، ويتَّضِعُ معه كُلُّ رفيعٍ، وهذه صِفةٌ يَستَحِقُّها بذاتِه". وقال الزَّجاجيُّ: "الجَلال: العظَمة، فاللهُ عز وجل ذو الجَلالِ والعظَمة والكبرياء". وقال القرطبي في "الأسنى في شرح الأسماء الحسنى": " فمعنى جلاله: استحقاقُه لوصْفِ العظَمة ونَعْتِ الرِّفَعة، والمتعالي عزًّا وتكبُّرًا وتنزُّهًا عن نعوتِ الموجودات، فجلالُه إذًا صفةٌ اسْتَحقَّها لذاتِه". وقال السعدي في "تفسير أسماء الله الحسنى": "يا ذا الجلال والإكرام، فإن الجلال صفات العظمة، والكبرياء، والكمالات المتنوعة، والإكرام استحقاقه على عباده غاية الحب وغاية الذل".

ومِن الأدلة على صفة الله عز وجل "الجلال" من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة:
1 ـ قال الله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَام}(الرحمن:27). قال ابن كثير: "نَعَت تعالى وَجْهَه الكريم في هذه الآية الكريمة بأنَّه ذُو الْجَلَال وَالْإِكْرَام، أي: هو أهلٌ أن يُجَلَّ فلا يُعْصَى، وأن يُطاعَ فلا يُخالَف.. قال ابنُ عبَّاسٍ: {ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} ذو العَظَمة والكِبرياء". وقال السَّمعانيُّ: "قوله: {ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} أَي: الْكِبْرِيَاء وَالْعَظَمَة. وأما الْإِكْرَام: هُوَ مَا أكْرم أولياءه، وأصفياءه". وقال الخَطَّابيُّ في "شأن الدعاء": "(ذو الجَلالِ والإكرام): ..والمعنى: أنَّ اللهَ جَلَّ وعَزَّ مُستَحِقٌّ أن يُجَلَّ ويُكرَمَ فلا يُجْحَد، ولا يُكفَرَ به، وقد يحتَمِلُ أن يكونَ المعنى أنَّه يُكرِم أهلَ ولايتِه، ويَرفَعُ دَرَجاتِهم بالتوفيقِ لطاعتِه في الدُّنيا، ويُجِلُّهم بأن يتقَبَّلَ أعمالَهم، ويرفَعَ في الجِنانِ دَرَجاتِهم، وقد يحتَمِلُ أن يكونَ أحدُ الأمرَيِن - وهو الجَلالُ - مُضافًا إلى اللهِ سُبحانَه بمعنى الصِّفةِ له، والآخَرُ مُضافًا إلى العَبدِ بمعنى الفِعلِ منه، كقَولِه سُبحانَه: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ}(المدثر:56)، فانصرف أحَدُ الأمرَينِ - وهو المغفِرةُ - إلى اللهِ سُبحانَه، والآخَرُ إلى العبادِ، وهو التَّقوى. واللهُ أعلم". وقال الحليميُّ في "المنهاج في شعب الإيمان": "(ذو الجَلالِ والإكرام): معناه المستَحِقُّ بأن يُهابَ لسُلطانِه، ويُثنى عليه بما يَليقُ بعُلُوِّ شأنِه. وهذا قد يدخُلُ في بابِ الإثباتِ على معنى: أنَّ للخَلْقِ رَبًّا يستَحِقُّ عليهم الجلالَ والإكرام، ويدخُلُ في باب التوحيدِ على معنى: أنَّ هذا الحَقَّ ليس إلَّا لمُستحِقٍّ واحِد".
2 ـ قال الله تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإكْرَامِ}(الرحمن:78). قال الطبري: "{ذِي الجَلالِ}: يعني ذي العظمة، {والإكْرامِ} يعني: ومَنْ له الإكرام مِنْ جميع خَلْقِه.. عن ابن عباس قوله: {ذِي الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} يقول: ذو العظمة والكبرياء". وقال السعدي: "أي: تعاظم وكثر خيره، الذي له الجلال الباهر، والمجد الكامل، والإكرام لأوليائه".
3 ـ عن أنس بن مالك رضي الله عنه ـ في حديث الشفاعة ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فيُقَال: يا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَك، وقُلْ يُسْمَع، وسَلْ تُعْطَهْ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ، فأقُول: يا رَبِّ ائْذَنْ لي فِيمَن قال: لا إلَه إلَّا اللَّه، فيَقول: وعِزَّتي وجَلَالِي، وكِبْرِيَائِي وعَظَمَتي، لَأُخْرِجَنَّ منها مَن قال لا إلَه إلَّا اللَّه) رواه البخاري. قال الكرماني: "(وجلالي وكبريائي وعظمتي) فإن قلتَ: ما الفرق بين هذه الثلاثة؟ قلتُ: قيل هي مترادفة.. وإذا أُطْلِقت على الله تعالى فالمراد لوازمها بحسب ما يليق به، وقيل: الكبرياء يرجع إلى كمال الذات، والعظمة إلى كمال الصفات، والجلال إلى كمالها". وقال الهروي: "(وعزتي) أي: غلبتي وقوتي. (وجلالي) أي: عظمتي وقدرتي".
4 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ اللَّهَ يقولُ يَوم القيامة: أيْنَ المُتَحابُّونَ بجَلالِي؟ اليومَ أُظِلُّهُمْ في ظِلِّي، يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلِّي) رواه مسلم. وفي رواية: (إنَّ اللهَ تعالى يقول يوم القيامة: أين المُتحابُّونَ لجَلالي، اليومَ أُظِلُّهم في ظِلِّي يومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلِّي).
قال الطيبي في "الكاشف عن حقائق السنن": "(المتحابون في جلالي) خصَّ الجلال بالذِكْر لدلالته على الهَيْبة والسَطوة، أي المُنَزَهون عن شائبة الهوى والنفس والشيطان في المحبة، فلا يتحابون إلا لأجلي ولوجهي". وقال النووي: "(المتحابون بجلالي) أي بعظمتي وطاعتي، لا للدنيا". وقال القاضي عياض: "أي: لعظيم حقي وطاعتي". وقال القُرطبيُّ في "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم": "(لجَلالي) رُوِي باللَّام وبالباء، ومعناهما مُتقارِب، لأنَّ المقصودَ بهما هنا: السَّبَبيَّة، أي: لعظيمِ حَقِّي وحُرمةِ طاعتي، لا لغَرَضٍ من أغراضِ الدُّنيا".. وقال في "الاستذكار": "قوله: (الْمُتَحَابُّونَ لِجَلَالِي) أَي: الْمُتَحَابُّون فِيَّ، وَمِنْ أَجْلِي، إِجْلَالًا ومَحَبَّةً وابْتِغَاءَ مَرْضَاتي". وقال الزرقاني: "(لِجَلَالِي) أَيْ لِعَظَمَتِي".
5 ـ عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا سلم (من صلاته) لَمْ يَقْعُدْ إلَّا مِقْدَار ما يقول: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَام، تَبَارَكْتَ يا ذَا الجَلَالِ وَالإِكْرَام) رواه البخاري. وعَنْ ربيعة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألِظُّوا بـ: يَا ذا الجَلاَلِ والإكْرام) رواه أحمد. قال المناوي:" (ألظوا بياذا الجلال والإكرام): بفتح الهمزة وكسر اللام، وبظاء معجمة مشددة، أي: الزموا هذه الدعوة، وأكثروا منها". وقال الصنعاني: "(ألظوا) أي ألزموا واثبتوا عليه وأكثروا من قوله والتلفظ به في دعائكم، يقال: لظَّ بالشيء إلظاظاً إذا لازمه وثابر عليه، وفيه أن الجلال: العظمة، وفي الكشاف في قوله: {ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} الذي يُجِلَّه الموحدون عن التشبيه بِخَلْقِه وعن أفعالهم، أو الذي يقال له: ما أجَلَّك وأكْرمك.. وهذه الصفة من أعظم صفات الله".

مِن صفات الله سبحانه الواردة والثابتة بالأدلة من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة صفة "الجلال". فالله عز وجل هو المنفرد بصفات الجلال والكمال والعظمة، المُخْتَص بالإكرام والكرامة، فله كل جلال، ومنه كل كرامة، له الجلال في ذاته، والإكرام فيض منه على خَلْقه، وإكرامه لهم بالعطايا والمِنح والآلاء، فهو الجدير بالإكرام مِن خلقه، تعظيما لجلاله، وعرفانا بفضله وإكرامه، وتقديرا لنعمه وإحسانه. قال السَّعْديّ: "(ذو الجلال والإكرام) أي: ذو العظمة والكبرياء، وذو الرحمة والجود، والإحسان العام والخاص، المُكْرِم لأوليائه وأصفيائه الذي يُجلونه ويُعظمونه ويُحِبونه".
وقال ابن القيم في قصيدته "النونية":
وَهُوَ الجَلِيلُ فَكُلُّ أوْصَافِ الجَلالِ لهُ مُحَقَّقَةٌ بِلا بُطْلانِ
وقال الشيح الهراس في شرحه "للنونية": "وأوصاف الجلال الثابتة له سبحانه، مثل العزة والقهر، والكبرياء والعظمة، والسعة والمجد، كلها ثابتةٌ له على التحقيق، لا يفوته منها شيء".

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة