الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أساليب تقرير الإيمان بالقدر في السنة النبوية

أساليب تقرير الإيمان بالقدر في السنة النبوية

 أساليب تقرير الإيمان بالقدر في السنة النبوية

من التساؤلات التي تقع للمؤمن ما يتعلق بإيمانه بالقدر، والجمع بينه وبين ضرورة العمل وعدم الركون على المقدور، وهذا الإشكال ليس جديدا، بل قد سأل عنه الصحابة رضي الله عنهم، لكنهم سألوا سؤال مسترشد، فوجههم النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما ينفعهم، وعالج إشكاليتهم بأساليب نافعة، نقف على بعضها:

أولا: النهي عن تناول القدر بالجدل المؤدي إلى إثارة الشبهة
في سنن الترمذي عن أبي هريرة قال: " خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في القدر، فغضب حتى احمر وجهه، حتى كأنما فقئ في وجنتيه حب الرمان، ثم أقبل علينا، فقال: «أبهذا أمرتم، أم بهذا أرسلت إليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمت عليكم ألا تنازعوا فيه».
وفي مسند الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم والناس يتكلمون في القدر، قال: فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب، قال: فقال لهم: «ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم». قال: "فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله لم أشهده، بما غبطت نفسي بذلك المجلس، أني لم أشهده.
قال الإمام الطحاوي: "وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظرا وفكرا ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى في كتابه: {لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون} [الأنبياء: 23]. فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب، كان من الكافرين".
ثانيا: التوجيه نحو العمل بما ينفع

عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصرة، فنكس رأسه فجعل ينكت بمخصرته ثم قال: "ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة"، قال: فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فقال: "من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة". ثم قال: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة"، ثم قرأ: {فأما من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى، فسنيسره لليسرى، وأما من بخل واستغنى، وكذب بالحسنى، فسنيسره للعسرى} [الليل: 5 - 10] خرجاه في الصحيحين.
وعن زهير عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: جاء سراقة بن مالك بن جعشم، فقال: يا رسول الله، بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيم العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أم فيما يستقبل؟ قال: "لا، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير"، قال: ففيم العمل؟ قال زهير: ثم تكلم أبو الزبير بشيء لم أفهمه، فسألت. ما قال؟ فقال: "اعملوا فكل ميسر". رواه مسلم.
فهذه قاعدة نبوية عظيمة في باب القدر بأن ينشغل الإنسان بما طلب منه، وبما ينجيه عند الله من العمل، وأن لا يقطعه البحث في القدر عن العمل، وقد جعل الله أقدار الناس غيبا لا يعلمه إلا الله؛ حتى لا يتحججوا بالقدر، فمن احتج بالقدر على أنه لم يتيسر له الهداية فهو مدع للغيب، وما يدريه لعله من أهل السعادة، فالتزام هذه القاعدة النبوية هو الخير، وليكن شعار المسلم "اعملوا"، فهذا من الأساليب التي يدفع بها الإنسان عن نفسه إشكالات كثيرة.
ثالثا: أسلوب القصة لتقرير القدر

ففي المسند وغيره عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تحاج آدم وموسى، فقال موسى: أنت الذي أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة إلى الأرض، فقال له آدم: أنت الذي أعطاك الله علم كل شيء، واصطفاك على الناس برسالته؟ قال: نعم، قال: أفتلومني على أمر كان قد كتب قبل أن أفعله - أو قال: من قبل أن أخلق - قال: فحجَّ آدمُ موسى» . وشهد النبي صلى الله عليه وسلم أن آدم حجَّ موسى، أي: غلب عليه بالحجة.
وأحسن ما قيل في معنى الحديث ما ذكره ابن أبي العز في شرحه على الطحاوية: موسى عليه السلام كان أعلم بأبيه وبذنبه من أن يلوم آدم على ذنب قد تاب منه وتاب الله عليه واجتباه وهداه، وإنما وقع اللوم على المصيبة التي أخرجت أولاده من الجنة، فاحتج آدم بالقدر على المصيبة، لا على الخطيئة، فإن القدر يحتج به عند المصائب، لا عند المعائب، وهذا المعنى أحسن ما قيل في الحديث، فما قدر من المصائب يجب الاستسلام له، فإنه من تمام الرضى بالله ربا، وأما الذنوب فليس للعبد أن يذنب، وإذا أذنب فعليه أن يستغفر ويتوب، فيتوب من المعائب، ويصبر على المصائب. قال تعالى: {فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك} [سورة المؤمن: 55].
رابعا: أسلوب ضرب الأمثال

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، وينصرانه، كما تنتجون البهيمة، هل تجدون فيها من جدعاء، حتى تكونوا أنتم تجدعونها؟» قالوا: يا رسول الله: أفرأيت من يموت وهو صغير؟ قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين» أخرجاه في الصحيحين واللفظ للبخاري.
قال الدماميني في مصابيح الجامع: (هل تجدون فيها من جدعاء): - بجيم ودال مهملة -؛ أي: مقطوعة الأطراف، أو شيء منها، يريد: أن البهيمة تولد مجتمعة الخلق سليمة، لولا تعرض الناس لها؛ لبقيت كما ولدت، كذلك المولود يولد على فطرة الله متهيئا لقبول الحق، لو خلته شياطين الإنس والجن وما يختار، لم يخرج عنها.
وقد تعددت الأساليب النبوية في هذه القضية لأهميتها، فهي قضية محورية في حياة الإنسان العاجلة والآجلة، والمسلم الذي أسلم وجهه لله تعتبر هذه القضية واضحة بينة لديه، وهو معصوم فيها عن الزلل بفضل توافر النصوص حولها، وتعدد الأساليب النبوية في توضيحها وبيان الواجب فيها، فهو على نور من الوحي وبصيرة من الشرع.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة