الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أصول التفسير الموضوعي

أصول التفسير الموضوعي

أصول التفسير الموضوعي

أولاً: مشروعية التفسير الموضوعي

إن كل شكل من أشكال الفهم لمعاني القرآن ينبني على أصل الأمر بتدبر القرآن المستفاد من قوله تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب} (ص:29) وقوله سبحانه: {أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين} (المؤمنون:68) وقوله عز وجل: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} (محمد:24).

والتفسير الموضوعي يندرج ضمن هذا الأمر العام؛ إذ هو تدَبُّر وفَهْمٌ للقرآن الكريم، بل إن التفسير الموضوعي يُعدُّ استجابة لقوله تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} (النساء:82) فقد وردت هذه الآية في سياق عام يرتبط بالحضِّ على الجهاد بالنفس والمال ومواجهة القاعدين والمعوِّقين والتنديد بهم، ومن هؤلاء المعوِّقين المنافقون الذين يقترح عليهم القرآن جواباً على تردُّدهم وتشككهم خطة الاحتكام في أمر القرآن إلى إدراكهم وتدبر عقولهم، يقول ابن كثير: "أي: لو كان مفتَعَلاً مختَلَقاً، كما يقوله من يقوله من جهلة المشركين والمنافقين في بواطنهم {لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} (النساء:82) أي: اضطراباً وتضاداً كثيراً. أي: وهذا سالم من الاختلاف، فهو من عند الله". ووجه الاستدلال بالآية أن من أبرز مزايا المنهج الموضوعي اكتشاف تكاملية معاني نصوص القرآن وتناسقها وعدم تناقضها أو اختلافها، وهو الأمر نفسه الذي أمرت به الآية.

وذكر بعض العلماء في مورد احتجاجهم للتفسير الموضوعي قوله تعالى: {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني} (الزمر 23) ليقرروا أن {المثاني} صفة للقرآن، بمعنى أن بعض آيات القرآن ناظر إلى بعضها الآخر؛ فقد نقل الطبري عن الحسن البصري قوله في تفسير {المثاني} قال: "ثنى الله فيه القضاء، تكون السورة فيها الآية في سورة أخرى آية تشبهها"، أي أن هناك سنداً قرآنيا للتفسير الموضوعي باعتباره قائماً على ما وصف القرآن به نفسه، وما يعنيه ذلك من لفت الأنظار.

وقد أضيف إلى دواعي الاشتغال بالتفسير الموضوعي مسوِّغ عملي، وهو أن شوط التفسير الترتيبي شوط طويل؛ لأنه يبدأ بسورة (الفاتحة) وينتهي بـ (الناس) ويحتاج هذا الشوط من أجل إكماله فترة زمنية طويلة، لم يحظ من علماء المسلمين إلا عدد محدود بهذا الشرف العظيم، شرف مرافقة كتاب الله من بدايته إلى نهايته.

وقد يرى البعض أن اتباع ترتيب في التفسير يخالف ما عليه المصحف. وقد أثار هذه القضية محمد عزة دروزة في مقدمة تفسيره، وتساءل عن مشروعية تفسير القرآن بشكل يخالف ما عليه ترتيب المصحف، ولا سيما وهو يرى ضرورة تفسيره بحسب ترتيب نزوله التاريخي؛ لما في ذلك متابعة أطوار التنزيل ومراحله بشكل أوضح وأدق. وقد قلَّب دروزة وجوه الرأي حول محاذير هذه الطريقة التي تشترك مع طريقة التفسير الموضوعي في عدم مراعاة الترتيب المصحفي، وخَلُص إلى النتائج الآتية:

- إن عملية التفسير ليست المصحف المتعبد بتلاوته، إذن فالمسُّ بقدسية المصحف مسألة مستبعدة، فهي محفوظة؛ إذ إن آيات القرآن هي هي، والكتاب الكريم محفوظ بين دفتيه.

- إن هذا المنهج عملية علمية وفنية في فهم القرآن.

- إن ثمة محاولات عديدة لتفسير سور القرآن وآياته بشكل مستقل، ولم يقل أحد من العلماء إن ذلك يمس بقدسية المصحف. وهذه النتائج تنطبق على التفسير الموضوعي.

وتأسيساً على ما تقدم اعتبر أن منهجه في دراسة القرآن منهجاً مشروعاً، ولا سيما أنه عزز ذلك بفتوى عالميين جليلين طلب منهما المشورة، فأذنا له واستحسنا طريقته، وهما: أبو اليسر عابدين مفتي سوريا، والشيخ عبد الفتاح أبو غدة.

فإذا أضيف إلى ذلك تشجيع كثير من العلماء لهذا النهج في التفسير، بل ومحاولاتهم التطبيقية فيه، تكون مسألة شرعية التفسير الموضوعي قد حُسمت؛ إذ استندت إلى أسس قوية، وأدلة معتبرة.

ثانياً: وحدة النص القرآني

التفسير الموضوعي يقوم أصلاً على فكرة الوحدة الموضوعية الكلية للقرآن يحتاج لحجيته وثبوتيته إلى البرهان على وجود هذه الوحدة الموضوعية.

لقد استقر الرأي لدى علماء القرآن على أن القرآن يعدُّ كله نصًّا واحداً يعتمد بعضه على بعض، ويحيل بعضه إلى بعض؛ فمعظم المفسرين أكدوا على أولوية تفسير القرآن بالقرآن، وفضَّلها على طرق التفسير الأخرى، فالمنهج السليم للتفسير -كما يقرر أهل العلم- أن يتناول المفسر الآيات التي يفسر بعضها بعضًا، ولا ينبغي له أن يبني حكماً، أو يقرر رأياً، أو يكشف معنى إلا بعد استيفاء هذا المعنى، وهو تفسير القرآن بالقرآن.

ومن جهة أخرى فقد اعتمد كثير من علماء القرآن تشبيه النص القرآني بالسورة الواحدة، أو بالكلمة الواحدة أحياناً من حيثيات عدة، منها ما يتصل بتماسكه وانسجامه وتناسبه، ومنها ما يتصل بإحالة بعضه إلى بعض، وتفسير بعضه بعضاً، تخصيصاً، أو تقييداً، أو تفصيلاً؛ فقد اختلف المفسرون في {لا} عند قوله تعالى: {لا أقسم بيوم القيامة} (القيامة:1) فرأى بعضهم أنها زائدة، ورأى فيها البعض ردًّا لكلام قد تقدم من الكفار، فإن القرآن كله -بحسب الزركشي- "يجري مجرى السورة الواحدة، وهذا أولى من دعوى الزيادة؛ لأنها تقتضي الإلغاء، وكونها صدر الكلام يقتضي الاعتناء بها وهما متنافيان".

ونقل القرطبي عند تفسيره لقوله تعالى: {يا معشر الجن والإنس} (الرحمن:33) عن الجرجاني قوله في هذا الصدد: "خاطب الجن مع الإنس وإن لم يتقدم للجن ذكر، وقد سبق ذكر الجن فيما سبق نزوله من القرآن، والقرآن كالسورة الواحدة". وأكد هذا المعنى الشيرازي بقوله: "القرآن من فاتحته إلى خاتمته كالكلمة الواحدة"، فوجب ضمُّ بعضه إلى بعض.

والموضوع الواحد في القرآن يتم تناوله بطرق مختلفة، ومن زوايا متباينة، وبالرغم من ذلك تكون طريقة التناول متسقة تمام الاتساق مع وحدة السورة، ثم إذا جُمعت الآيات التي هي في موضوع واحد، وقد ذُكرت في سور متعددة تكون صورة تامة كاملة.

ومن المهم أن يقال: إن من منهج القرآن أن يفرق الموضوع في القرآن على سور متفرقة، وفي سياقات مختلفة، له فيها حكم ودلالات، بحيث يشكل كل جزء منها حجراً في البناء الكلي للموضوع كما أراده الله أن يكون. كما أن عدم استيفاء الموضوع في السورة الواحدة من القرآن -غالباً- بحيث تحيط السورة بكافة جوانبه إحاطة كاملة يدفع إلى البحث عن الجوانب المكملة له في السور الأخرى، إذا أردنا أن ندرك الموضوع ونحيط به من جوانبه كافة.

إن التجربة التفسيرية للقرآن الكريم تُظهر أن جمع آيات الموضوع الواحد في القرآن تؤدي إلى الخروج برؤية كلية ووحدة موضوعية؛ فمثلاً درس موضوع مسؤولية المرأة في القرآن يُظهر تكامل جوانب هذا الموضوع في سور متعددة، فقد جعلها مسؤولة عما يخصها ويختص بها من حمل ورضاع وعدَّة وصَداق، كما جعلها مسؤولة مسؤولية كاملة عن عملها كإنسانة، فهي تحاسَب عن العمل إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

لقد رأى كثير من المتبنِّين للمنهج الموضوعي في التفسير أن فيه من سعة الأفق والقدرة على التجدد والتطور والإبداع ما لا يتوفر مثله للتفسير الترتيبي التحليلي؛ وذلك أن التجربة البشرية تغني هذا التفسير بما تقدمه له من مواد، ثم تطرح هذه المواد بين يدي القرآن الكريم لكي يستطيع المفسر أن يستحصل الأجوبة من القرآن. وهذا هو الطريق الوحيد للحصول على النظريات الأساسية للقرآن تجاه موضوعات الحياة المختلفة.

إن الحاجة إلى دراسة نظريات القرآن حاجةٌ حقيقية ملحة، خصوصاً مع ظهور النظريات الحديثة التي أعقبها تفاعل كبير بين إنسان العالم الإسلامي وإنسان العالم الغربي بكل ما يملك هذا الإنسان من رصيد عظيم، ومن ثقافة متنوعة في مجالات المعرفة الإنسانية كافة. وتبقى مهمة المفسر الموضوعي تحصيل النظريات المختلفة في النظم القرآن في جوانب الفكر والحياة المختلفة.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة