الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أسلوب الإقناع في السيرة النبوية

أسلوب الإقناع في السيرة النبوية

أسلوب الإقناع في السيرة النبوية

الإقناع هو حوار يهدف إلى تغيير موقف أو سلوك شخص أو مجموعة تِجَاه حَدَث معين، باستخدام كلمات مكتوبة أو منطوقة، يمكن من خلالها التأثير في تغيير السلوكيات والمفاهيم. والمتأمل في السيرة النبوية يرى كثرة الوسائل والأساليب التي انتهجها النبي صلى الله عليه وسلم في تعليمه وتربيته لأصحابه والأمة من بعدهم، حرصاً منه على أن تنتقل توجيهاته الكريمة وتعاليمه النبوية من مرحلة العلم والسماع إلى مرحلة التطبيق والفعل للمتعلم والمُرَبَّى. وإذا كان الأصل في هديه ومنهجه صلى الله عليه وسلم: اللين والرحمة والرفق، وأن يُرَبَّى الناس على التسليم للأوامر بالفعل وللنواهي بالترك، فهناك بعض النفوس قد تكون شاردة عن الحق، مصرة على الخطأ، ولا يوقظ هذه النفوس ويرجعها إلى طريق الهداية والخير إلا أسلوب الإقناع الذي لا يبتعد ولا ينفصل عن اللين والرفق..
والأمثلة على التربية والدعوة عن طريق حوار الإقناع من السيرة النبوية كثيرة، ومنها:

ـ عن أبي أُمَامة رضي الله عنه قال: (إن فتى شابا أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا! فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: مَهْ مَهْ (أي: اسكت وانزجر)، فقال: ادنه، فدنا منه قريبا، قال: فجلس، قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا واللَّه، يا رسول اللَّه جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا واللَّه جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال: فوضع يده عليه وقال: اللَّهمّ اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحَصِّنْ فرْجَه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء) رواه أحمد.
جمع النبي صلى الله عليه وسلم في تقويم وتربية هذا الشاب بين أسلوب الإقناع العقلي والعاطفي، أما الإقناع العاطفي فقد ظهر ذلك في قوله: (ادنه)، (فدنا منه قريبا)، (فجلس)، (فوضع يده عليه)، ودعا له بقوله: (اللَّهمّ اغفر ذنبه وطهر قلبه، وحصن فرجه). وأما الإقناع العقلي فبقوله: (أتحبه لأمك؟)، (أفتحبه لابنتك؟)، (أفتحبه لأختك؟)، (أفتحبه لعمتك؟)، (أفتحبه لخالتك؟)، وكان يكفي قوله: (أتحبه لأمك؟)، لكنه عَدَّدَ مَحَارِمه زيادة في الإقناع، ودلالة على أن ما قد يأتي من النساء لا تخلو أن تكون أماً، أو بنتاً، أو عمة، أو خالة لأحد من الناس. وفي هذا الأسلوبِ بَيانٌ لعَظيمِ حِكمةِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في دعوة الناس، وكيف أقنَعَ الشَّابَّ بحُرمة الزِّنا مع فَرْطِ الشَّهوة وقوَّة الشَّباب، حتَّى إنَّه أتَى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لِيُرخِّصَ له فيه، فانصرف عالما ومؤمنا بحرمة الزنا شديد البغض له (فلم يكُنْ بعْدُ ذلك الفتَى يَلْتفِتُ إلى شيءٍ).

ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! وُلِدَ لي غلام أسود، فقال: هل لك من إبل؟ قال: نعم! قال: ما لونها؟ قال حمر، قال: هل فيها من أوْرق؟ قال: نعم! قال: فأنَّى ذلك؟ قال: نزعه عِرْق، قال: فلعل ابنك هذا نزعه عرق) رواه البخاري. قال الشيخ ابن عثيمين في شرحه لهذا الحديث: "وانظر إلى المثل العجيب الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لرجل من الأعراب، صاحب بادية إبل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يا رسول الله، إن زوجتي ولدت غلاماً أسود ـ يعني: وأنا أبيض والمرأة بيضاء، من أين جاءنا هذا الأسود؟ ـ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل لك من إبل؟ قال: نعم قال: ما ألوانها؟ قال: حمر. قال: هل فيها من أورق؟ يعني أسود ببياض، قال: نعم. قال: من أين جاءها ذلك؟ قال: لعله نزعه عرق، يعني ربما يكون له أجداد أو جدات سابقة لونها هكذا، فنزعة هذا العرق، قال: فابنك هذا لعله نزعه عرق، لعل واحداً من أجداده أو جداته أو أخواله أو آبائه لونه أسود فجاء الولد عليه، فاقتنع الأعرابي تمام الاقتناع، لو جاءه النبي عليه الصلاة والسلام يشرح له شرحاً فهو اعرابي لا يعرف، لكن أتاه بمثال من حياته التي يعيشها، فانطلق وهو مقتنع، وهكذا ينبغي لطالب العلم، بل ينبغي للمعلم أن يقرب المعاني المعقولة لأذهان الناس بضرب الأمثال المحسوسة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم". والملاحَظ في موقف النبي صلى الله عليه وسلم مع الأعرابي استخدامه أسلوب الإقناع مستفيداً من البيئة المحيطة والاستفادة من البدهيات التي يؤمن بها المحاوَر، وهذه حكمة نبوية عظيمة.

ـ في غزوة حُنَيْن رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتألف البعض بالغنائم تأليفا لقلوبهم، وذلك لحداثة عهدهم بالإسلام، وقد تأثر بعض الأنصار من هذا العطاء بحكم الطبيعة البشرية، فظهر بينهم نوع من الاعتراض على ذلك، فراعى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاعتراض وعمل على إزالته بأسلوب وحوار يتسم بالحكمة والإقناع، والود والحب، خاطب فيه عقولهم وعواطفهم، فكانت النتيجة أن انقادوا طائعين راضين بقسمة الله تعالى ورسوله. عن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا في قريش وقبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد (غضب) هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القالة، حتى قال قائلهم: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار شيء، قال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال: يا رسول الله، ما أنا إلا امرؤ من قومي، وما أنا من ذلك، قال : فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة، قال: فخرج سعد فجمع الناس في تلك الحظيرة، قال: فجاء رجال من المهاجرين فتركهم، فدخلوا وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا أتاه سعد، فقال : قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، قال: فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو له أهل، ثم قال: يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها في أنفسكم، ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله، وعالة (فقراء) فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ قالوا: بل الله ورسوله أمن وأفضل، قال: ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟ قالوا: وبماذا نجيبك يا رسول الله، ولله ولرسوله المن والفضل، قال: أما والله لو شئتم لقلتم فَلَصَدَقْتُمْ، وَصُدِّقْتُمْ، أتيتنا مُكَذَّبًا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك، أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم في رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس شِعبا (طريقا)، وسلكت الأنصارُ شِعْبا لسلكْتُ شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار، قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا) رواه أحمد.
قال ابن القيم في هذا الحوار النبوي: "ولما شرح لهم صلى الله عليه وسلم ما خفي عليهم من الحكمة فيما صنع رجعوا مذعنين، ورأوا أن الغنيمة العظمى ما حصل لهم من عَوْد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بلادهم".

لقد تعدَّدت أساليب الدعوة والتربية النبوية، إلا أن الهدف كان واحداً، وهو استخراج الخير من النفوس، واستئصال الشر منها، وتوجيهها لما فيه صلاحها، ومما لا شك فيه أن المخطيء والجاهل له حق يتمثل في نصحه وتوجيهه بأفضل الطرق وأقومها وأنسبها لحاله، ولو أن الدعاة والمعلمين والمربين اقتدوا بالأسلوب النبوي الكريم وما فيه من حلم ورفق، ورحمة وحب، وحكمة وإقناع، لأثروا في النفوس تأثيراً يجعلها تستجيب للحق والخير، وتسارع لتنفيذ أمر الله وهَدْي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما حدث في موقف النبي صلى الله عليه وسلم مع ذلكم الشاب الذي جاء يستأذن في الزنا، ومع الأعرابي الذي شك في نسب ولده إليه، ومع أصحابه في غزوة حنين..
إن دعوة النَّاس فُرادَى وجَماعاتٍ إلى دِينِ الله عزَّ وجلَّ وشرائعه يَنبغي أنْ تكون بالحِكمة والموعظة الحسنة، وهكذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم، كان تطبيقا عمليا ومثالا حيّاً لقول الله اللهُ تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(النحل: 125)، قال السعدي: "أي: ليكن دعاؤك للخَلْق، مسلمهم وكافرهم، إلى سبيل ربك المستقيم، المشتمل على العلم النافع والعمل الصالح، {بِالْحِكْمَةِ} أي: كل أحد على حسب حاله وفهمه.. ومن الحكمة الدعوة بالعلم لا بالجهل، والبداءة بالأهم فالأهم، وبالأقرب إلى الأذهان والفهم، وبما يكون قبوله أتم، وبالرفق واللين، فإن انقاد بالحكمة، وإلا فينتقل معه إلى الدعوة بالموعظة الحسنة، وهو الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب، إما بما تشتمل عليه الأوامر من المصالح وتعدادها، والنواهي من المضار وتعدادها، وإما بذِكْرِ إكرام من قام بدين الله، وإهانة من لم يقم به، وإما بذكر ما أعد الله للطائعين، من الثواب العاجل والآجل، وما أعد للعاصين من العقاب العاجل والآجل، فإن كان المدعو يرى أن ما هو عليه حق، أو كان داعيه إلى الباطل، فيجادل بالتي هي أحسن، وهي الطرق التي تكون أدعى لاستجابته عقلا ونقلا، ومن ذلك الاحتجاج عليه بالأدلة التي كان يعتقدها، فإنه أقرب إلى حصول المقصود، وأن لا تؤدي المجادلة إلى خصام أو مشاتمة تذهب بمقصودها، ولا تحصل الفائدة منها، بل يكون القصد منها هداية الخَلْق إلى الحق لا المغالبة ونحوها". وقال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(الأحزاب:21). قال ابن كثير: "هذه الآية أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله".

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة