الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

زواج النبي صلى الله عليه وسلم بِحَفْصَة

زواج النبي صلى الله عليه وسلم بِحَفْصَة

زواج النبي صلى الله عليه وسلم بِحَفْصَة

زواج النبي صلى الله عليه وسلم من زوجاته رضي الله عنهن فيه الكثير مِن الحِكَم التشريعية والتعليمية والدعوية، فقد حرص في بعضها صلوات الله وسلامه عليه على توثيق الرابطة بين المسلمين وبعض القبائل رغبة في موادعتهم وطمعا في إسلامهم، كما حدث عندما تزوج بجويرية بنت الحارث وأم حبيبة رملة بنت أبي سفيان، وصفية بنت حيي بن أخطب. وهدف في بعضها الآخر تكريم الشهداء الذين ماتوا في سبيل الله، وتركوا أرامل لا يقدرون على تحمل متاعب الحياة وأعبائها، مثل أم سلمة، وزينب بنت خزيمة، وسودة بنت زمعة. وفي بعضها الآخر زواجا تشريعيا لإبطال نظام التبني كزواجه صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش، وكان الهدف كذلك من بعض هذه الزوجات توثيق أواصر الترابط بينه صلى الله عليه وسلم وبين صاحبيه الجليلين أبى بكر وعمر رضي الله عنهما، وتكريما لهما بشرف المصاهرة به، وذلك من خلال زواجه صلوات الله وسلامه عليه بعائشة وحفصة رضي الله عنهما.
قال أبو نعيم في "معرفة الصحابة" وابن سيد الناس في "عيون الأثر": "حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، أخت عبد الله لأبيه وأمها زينب بنت مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة، أخت عثمان بن مظعون. وقد تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة ثلاث من الهجرة، وكانت قبله عند خُنيس بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعد وكان بدرياً شهد بدراً مع النبي صلى الله عليه وسلم ومات بالمدينة، وكانت رضي الله عنها صوَّامة قوَّامة، وُلِدَت قبل المبعث بخمس سنين وكانت وفاتها في شعبان سنة خمس وأربعين رضي الله عنها وأرضاها".

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (حين تأيَّمَت (مات زوجها) حفصة بنت عمر مِنْ خُنَيس بن حذافة السهمي، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شهد بدرا توفي بالمدينة، قال عمر: فلقيتُ عثمان بن عفان فعرضتُ عليه حفصة فقلتُ: إن شئتَ أنكحتك (زوَّجْتُك) حفصة بنت عمر، قال: سأنظر في أمري، فلبثتُ ليالي فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا. قال عمر: فلقيتُ أبا بكر فقلت: إن شئتَ أنكحتك حفصة بنت عمر، فصمتَ أبو بكر فلم يرجع إليَّ شيئا، فكنتُ عليه أوْجد (أحْزن) مني على عثمان. فلبثتُ ليالي، ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتُها (فزوجْتُها) إياه. فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت عليَّ حين عرضْتَ عليَّ حفصة فلم أرجع إليك؟ قلتُ: نعم، قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت إلا أني قد علمتُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها النبي صلى الله عليه وسلم لقبِلْتُها) رواه البخاري.
قال ابن بطال في شرحه لصحيح البخاري: "وفى حديث عمر مِن الفقه الرخصة في أن يعرض الرجل ابنته على الرجل الصالح رغبة فيه، ولا نقيصة عليه في ذلك. وفيه: أنَّ مَنْ عرض عليه ما فيه الرغبة فله النظر والاختيار، وعليه أن يخبر بعد ذلك بما عنده، لئلا يمنعها من غيره، لقول عثمان بعد ليال: قد بدا لي ألا أتزوج يومي هذا. وفيه: الاعتذار، لأن عثمان قال: لا أريد التزويج يومي هذا، ولم يقل أبو بكر: لا أريد التزويج، وقد كان يريده حين قال: لو تركها لنكحتها، ولم يقل: نعم، ولا لا. وفيه: الرخصة أن يجد الرجل على صديقه في الشيء يسأله، فلا يجيبه إليه ولا يعتذر بما يعذره به، لأن النفوس جُبِلَت على ذلك، لاسيما إذا عرض عليه ما فيه الغبطة له" .
وقال ابن الجوزي: "وقول عمر: فلقيت عثمان فعرضتُ عليه حفصة، يدل على أن السعي من الأب للأيِّم (ابنته التي مات زوجها) في التزويج، واختيار الأكفأ جائز غير مكروه، وقوله: (فلقيت أبا بكر فعرضتها عليه فلم يرجع إليَّ شيئا، فكنت عليه أوجد مني على عثمان) وذلك لشيئين: أحدهما: أنه كان أقرب إلى صداقته ومخالطته من عثمان، والثاني: أن عثمان أفصح له بالرد فأراحه، وأبو بكر صمت فتركه على الترقب، ولذلك اعتذار أبي بكر عن الإمساك بأنه سمع رسول الله يذكرها".

أمَر الله نبيَّه بمراجعته لحفصة لمّا طلّقها:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: (أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان طلَّقَ حفصَةَ ثمَّ راجعها) رواه النسائي وصححه الألباني. وعن قيس بن يزيد رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة تطليقة، فأتاها خالاها عثمان وقُدَامَة ابنا مظعون، فقالت: والله ما طلقني عن شبع (نقص)، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل فتجلببتُ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتاني جبريل عليه السلام فقال: راجع حفصة، فإنها صوَّامة قوَّامة (كثيرة الصيام والصلاة)، وإنها زوجتك في الجنة) رواه الحاكم وحسنه الألباني. قال الكرماني: "ولما طلقها نزل عليه الوحي يقول راجِع حفصة فإنها صوامة قوامة". وقال الصنعاني: "(فإنها صوامة قوامة) كثيرة الصوم والقيام ومن كان بهذه الصفة فإنه يُرْغَب فيه لا يُرْغَب عنه (وإنها) عند الله وفي علمه (زوجتك في الجنة) فلا تفارقها". وقال المناوي: "(فإنها صوامة قوامة) بالتشديد أي دائمة القيام للصلاة (وإنها زوجتك في الجنة) وكذا جميع زوجاته".

فائدة:
ما زال أعداء الإسلام يُثِيرون بعض الشبهات حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُريدون بذلك الوصول إلى هدفهم في تشويه الإسلام، والطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هذه الشبهات التي أثاروها أنه صلى الله عليه وسلم كان شهوانيًّا محبًّا للنساء، وذلك استنادًا إلى تعدُّد زوجاته..
والحقيقة التي لا مراء فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن شهوانيًّا، وإنما كان بشرًا نبيًّا، تزوَّج كما يتزوَّج الناس، ومن الثابت والمعلوم عنه صلى الله عليه وسلم أنه عاش إلى الخامسة والعشرين من عمره في بيئة جاهلية، عفيف النفس، دون أن ينساق في شيء من التيارات الفاسدة التي تموج حوله. قال ابن هشام في السيرة النبوية: " فشبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والله تعالى يكلؤه ويحفظه، ويحوطه من أقذار الجاهلية، لما يريد به من كرامته ورسالته، حتى بلغ أنْ كان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقاً، وأكرمهم حسباً، وأحسنهم جواراً، وأعظمهم حلماً، وأصدقهم حديثاً، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال، حتى سمي في قومه الأمين ، لِما جمع الله فيه من الأمور الصالحة ".
كما أنه صلى الله عليه وسلم تزوج من خديجة رضي الله عنها ولها ما يقارب ضعف عمره، حتى تجاوز مرحلة الشباب، وقد ظل هذا الزواج قائماً حتى توفيت عن خمسة وستين عاماً، وقد قرُبَ النبي صلى الله عليه وسلم من الخمسين من عمره، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يفكر في أن يضم إليها زوجة أخرى، مع أنه أمر طبيعي في هذه البيئة، ومن ثم فكثرة زواج النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بهدف التمتع وإشباع الشهوة، وإن كان ذلك أمراً سائغاً لا يعاب الإنسان به، وقد عَدَّد الأنبياء قبله صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر ابن حجر في "فتح الباري" حِكَماً كثيرة من استكثاره صلى الله عليه وسلم من الزوجات، فقال: "أحدها: أن يَكثر من يشاهد أحواله الباطنة فينتفي عنه ما يظن به المشركون من أنه ساحر أو غير ذلك. ثانيها: لتتشرف به قبائل العرب بمصاهرته فيهم . ثالثها: الزيادة في تألفهم لذلك. رابعها: لتكثر عشيرته من جهة نسائه فتزداد أعوانه على من يحاربه. خامسها: نقل الأحكام الشرعية التي لا يطلع عليها الرجال، لأن أكثر ما يقع مع الزوجة مما شأنه أن يختفي مثله. سادسها: الاطلاع على محاسن أخلاقه الباطنة".
وقد ساهمت أمهات المؤمنين مساهمة كبيرة في حفظ ونقل السنة النبوية (المصدر الثاني للتشريع) إلى الأمة الإسلامية، فقد ذكر رُواة السنة أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم رويْن أكثر من ثلاثة آلاف حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روت حفصة رضي الله عنها ستين حديثا منها، اتفق البخاري ومسلم على أربعة، وانفرد مسلم بستة أحاديث.

إن مصاهرة النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب بزواجه من ابنته حفصة، بعد مصاهرة أبي بكر وزواجه من ابنته عائشة، ثم تزويجه ابنته فاطمة لعلي بن أبي طالب، وتزويجه ابنته أم كلثوم لعثمان بعد وفاة رقيّة رضي الله عنهم جميعا، يشير إلى حكمته صلوات الله وسلامه عليه في سعيه لتوثيق الصلات بالرجال والخلفاء الأربعة ـ أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ـ، الذين عُرِف بلاؤهم وبذلهم لنصرة للإسلام والمسلمين..

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة